adv

Hazooma blog in other languages

مذكرات د : مصطفى محمود " الصدام مع عبدالناصر " ( الحلقة الخامسة )




■ إن الاستسلام للمنطق والعقل وحده فيه استئصال لأجمل ما فى الإنسان.. روحه.. ووجدانه.. وضميره ولو لم يكن إبليس موجودا لأوجدناه

■ إننا لا نستطيع أن نعيش دون أن نسمع ذنوبنا

■ هناك شبح نلعنه كل يوم ونرجمه لأنه غرر بنا

■ نحن نساعد فى خلق الأباطرة والجبابرة

■ بل نحن الذين نخلقهم ونشكلهم بأيدينا

■ إن الشياطين من صنع أيدينا والإجرام قرين لكل منا

■ لأننا جميعا أبناء القاتل قابيل

■ لكل منا قرين ولكن يوجد من يسيطر على قرينه ويوجد من يسيطر عليه قرينه

■ إن السم لا يزرع ولا يصنع ولكنه يخرج من حقدنا وحنقنا لبعضنا البعض

■ ولا يحين الموت إلا بعد أن ينتهى الأجل

■ فالموت قرار من الله وحده

مصطفى محمود

مازال المفكر الكبير والفيلسوف مصطفى محمود يفتح حقيبة أسراره ويطلعنا على ما تحويه دفاتره ويخرج كل ما بداخلها من أسرار.. مازال قلبه ينبض.. مازال عقله واعيا يتذكر كل تفاصيل رحلته الطويلة التى قضاها باحثاً عن اليقين يحاول الوصول للحقيقة الغائبة عن الجميع، يقول مصطفى محمود: ليس من السهل أو المعقول أو الطبيعى على الطيور أن تكف عن التحليق فى الفضاء، أو على العصفور أن يسجن فى قفص حتى ولو كان من الذهب والأحجار الكريمة، أو على المفكر أن تحجب أفكاره وترصد الرقابة قلمه وتختار نوع الحبر الذى ينسج به كتاباته،

وبالتالى لم يكن من السهل أن تحجب عنى كل ألوان الحياة من الماء والهواء والضوء والحياة التى تتمثل فى الكتابة والتعبير عن الرأى، وإخراج كل ما يدور داخلى من صراع وأفكار تحاول إثبات حقيقة المسلمات ـ التى تكلمت عنها من قبل ـ ولكن هذه كانت طبيعة الظروف والأحوال فى عهد الديكتاتورية التى مرت بها مصر.. عهد تحرير المصريين لاستعبادهم،

هذا بكل بساطة وصفى ورؤيتى لعهد جمال عبدالناصر فمهما تقدم بى العمر وطعن السن فى الشيخوخة ووصلت إلى أواخر أيامى فلن أنسى ما كان يحدث فى عهده من فتح السجون والمعتقلات ومصادرة الفكر والرأى، وبالطبع عانيت فى تلك الفترة لأننى كنت أحد الكتاب البارزين خاصة بعد أزمة كتابى الأول «الله والإنسان» فكنت أتوقع أنه فى أى لحظة لابد أن يقع بينى وبين عبدالناصر الصدام الذى وقع مع الجميع من قبلى، وبالفعل فوجئت بأن إحسان عبدالقدوس يطلبنى فى مكتبه بـ«روزاليوسف» وتوجهت إليه مباشرة، وعندما دخلت إلى السكرتارية لكى تبلغه بأنى أنتظره فوجدتها تقول لى: ادخل الأستاذ مستنيك على نار منذ أكثر من ساعة ولغى كل مواعيده.

فانتابتنى أفكار بأن هناك شيئاً خطيراً حدث أو منتظراً أن يحدث ولكننى تجاهلت كل هذه الأفكار ودخلت عليه المكتب فوجدته من الوهلة الأولى يقول لى وهو يبتسم: أهلا يا مغلبنى وبسببه طاير النوم من عينى. وكأنه كان يهدأ من وطأة المسألة، وقلت له: خير يا إحسان فى قضايا تانى اترفعت عليا ـ فقد كنت خارجاً من قضية كتاب «الله والإنسان» لسة طازة.. فقال: يا مصطفى اجلس فى البيت.. فقلت له يعنى إيه.. قال صدرت أوامر بمنعك من الكتابة، فقلت من أصدر هذه الأوامر ولماذا أتوقف عن الكتابة؟..

قال يمكن أن يكون بسبب المقالتين اللتين قمت بكتابتهما ونشرهما مؤخرا.. ثم أن أمر الإيقاف من قيادات عليا جدا.. فقلت له مين يعنى.. الراجل الكبير.. هز رأسه بالإجابة «نعم» وقال: يا مصطفى احمد ربنا إن المسألة منع من الكتابة بس ومفيش اعتقال ولا سجن، فابتسمت رغم أنى أتمزق بالداخل لما سمعت وقلت له: ومن أدراك فلابد أن الاعتقال سيأتى عن قريب إن لم يكن الليلة..

وسلمت عليه بحرارة وقلت لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. فقال: يومين وهترجع تانى متقلقش وانصرفت من مكتب إحسان عبدالقدوس وأنا يداهمنى شعور رهيب بأنه سيتم اعتقالى ولن تمر على الليلة إلا وأنا داخل أحد السجون أو المعتقلات، فهذا كان سلوكاً سائداً فى تلك الفترة وتجولت فى شوارع القاهرة دون الشعور بالوقت حتى وجدت أن قدمى قادتانى إلى شقتى دون أن أدرى ودخلت الشقة وأنا يداهمنى شعور غريب بأن هناك من يراقبنى ولهذا أيقنت بأننى سأتعرض للاعتقال فى هذه الليلة لا محالة،

فجلست فى شقتى أنتظر طوال الليل عملية القبض على مستعداً تماماً بعد أن قمت بتجهيز حقيبتى التى وضعت بها «مجموعة كتب وغيارين داخليين وبيجامتين ومكنة حلاقة ومجموعة أمواس وصابونة ومعجون أسنان وفرشاة وشبشب حمام» واعترف بأن هذه الليلة كانت أصعب ليلة مرت على فى عمرى كله وفى حوالى الساعة الثالثة ليلاً وجدت طرقاً شديداً على الباب، وعرفت أن ما توقعته يتحقق فتوجهت لأفتح باب الشقة لكى أواجه مصيرى وقدرى الذى لا مهرب ولا مفر منه، وشاهدت ثلاثة ضباط ومجموعة من العساكر الذين دخلوا الشقة مندفعين إلى الحجرات دون استئذان،

وقبل أن أفتح فمى أخرج الضابط من جيبه أمراً بالقبض على موقعاً من عبدالناصر شخصياً فحملت حقيبتى بعد أن فتشوها وركبت سيارة الترحيلات وتوجهت إلى السجن الحربى، وواجهت بداخله أشد أنواع التعذيب البدنى والنفسى وفجأة استيقظت من النوم لأجد نفسى داخل حجرة نومى، ويتضح لى أن كل ما شاهدت من «تعذيب وضرب بالسيط والنوم فى حجرة مليئة بالمياه فى ليالى الشتاء قارسة البرودة»

كانت جميعها أحلاماً وكوابيس هاجمتنى طوال فترة نومى، لأن عملية القبض على شغلت تفكيرى ساعات كثيرة قبل خلودى إلى النوم، وارتحت بعض الشىء لأنه لم يتم القبض على فى الليلة الأولى بعد فصلى من العمل ونفيى فى البيت ـ فهكذا كنت أسمى أيام توقفى عن الكتابة بأنها أيام النفى - ولكن لم يتركنى الشعور بأنى سأعتقل ولكنى خرجت من كابوس اعتقالى لأواجه كابوساً ومعاناة أخرى ومختلفة وهى مسألة الإنفاق والمصاريف، فشغلت تفكيرى كثيراً مسألة كيف سأعيش بعد أن فقدت مهنتى ككاتب صحفى فى «روزاليوسف» وهناك قرار بمنعى من الكتابة فى أى جريدة أخرى وليس لى أى مصدر دخل أو رزق آخر.

لكن العناية الإلهية لم تنسنى فأثناء تفكيرى ومحاولة تدبير الحاجات بما تبقى معى من راتب وجدت أحد أصحاب دور النشر يطلب منى إعادة طباعة بعض الكتب التى طرحت بالأسواق لشدة إقبال الجمهور وطلبه المستمر لها فوافقت فى الحال، وكان عائد هذه الكتب هو مصدر الدخل الوحيد لى طوال فترة النفى، ورغم أن مشكلة الإنفاق والمصاريف قد دبرت إلا أننى كنت أعانى المشاكل النفسية التى تمزقنى وتشتت أفكارى، فالكتابة تمثل كل حياتى وكيانى فأصبحت تطاردنى مشاهد من داخل «روزاليوسف» وأيام نزولى إلى حجرة الأرشيف واطلاعى عليه وأنا أقرأ وأتأمل إعلانات كانت تنشر قبل قيام الثورة وطرد الملك فأين سعد حسين المطرب الصاعد الآن؟!

وهل كان يعلم بما سيحدث من ثورة وإذاعات موجهة ترسم اتجاهات وأذواق البشر.. كيان كامل اختفى وذاب كما يذوب الملح فى الماء، أصبحت خيالات أننى سأختفى ولن أصبح حتى ذكرى ليتذكرنى الناس تطاردنى من غرفة نومى إلى البلكون إلى الصالون، وحتى وأنا بجوار الراديو أستمع إلى موسيقى وغناء عبدالوهاب لا تتركنى هذه الأفكار المجنونة والمحطمة، عشت ومررت بحالة نفسية سيئة جداً كنت أشعر فى معظم الأحيان بأننى أنتظر تنفيذ حكم بالإعدام أو قرار بالإفراج وكل هذا لأننى أعلنت عن رأيى فى الماركسية وهتلر والنازية فى مقالتين، وكان جزاء الرأى النفى فقد تحولت مصر فى تلك الفترة إلى مقبرة للمفكرين وأصبحت الكلمة لا تصل صحيحة للناس، وأبرهن على ذلك «بأن أكبر دليل على تزييف الكلمة ما قرأناه وسمعناه بالكذب عن انتصارات ساحقة فى حرب ٦٧ من الإذاعة والصحف المصرية»، ولذلك بدأت أخرج كل ما بداخلى فى الكتابة..

والكتابة الخفية التى لا يراها أحد غيرى.. فبدأت أكتب مجموعة موضوعات غريبة وعجيبة عن أينشتاين وغيره من الفلاسفة وأخرجت كل حنقى على الاشتراكية والديكتاتورية، ولكنى كنت أشعر فى أحيان باليأس فكيف أقوم بكتابة رأيى حيال ما يحدث فى مصر ثم أقوم بإخفائه وتخبئته فبدأت بكتابة كتاب «الإسلام والماركسية» وحاولت أيضا أن أكسر هذا الشعور الرهيب بالوحدة، فاتجهت إلى القراءة بشكل شرس وتعمقت فى المسرح حتى قمت بكتابة ثلاث مسرحيات أخرجت فيها كل ما كان يدور بداخلى من مشاعر بالظلم، وتناولت بداخلها النظام الديكتاتورى الموجود وقتها، والذى قام بتعذيب وتهجير وتشريد وسجن وقتل المفكرين والكتاب لأنهم يريدون الإصلاح ويعبرون عن أفكارهم وآرائهم فى كل ما يحدث حولهم، وكل هذا أظهرته فى كتابتى لثلاث مسرحيات «الإنسان والظل، الزلزال، الإسكندر الأكبر» ـ وأخفيتها حتى مات عبدالناصر وقمت بنشرها فى عهد السادات وهذه المسرحيات حاولت بها مسرحة الواقع السياسى والاجتماعى الذى واجهته مصر وقتها، فقد كانت أفعال عبدالناصر جميعها شكلاً من أشكال الفوضى الخاطئة..

وطالت فترة حجبى ومنعى من الكتابة حتى أنها وصلت إلى عام كامل من العزلة فى منفاى، وفى إحدى الليالى الصافية الجميلة فوجئت بكامل الشناوى يقوم بزيارتى ويقول لى مقولته الشهيرة: أنت تلحد على سجادة الصلاة، ولهذا فقد قمت بزيارة هيكل وتحدثت معه عن الأزمة التى حدثت لك وهو يريد رؤيتك فى مكتبه بالأهرام. وفى اليوم التالى ذهبت إلى هيكل وقابلنى بقوله: إزيك يا مصطفى وعامل إيه.

قلت له: أنا مش كويس طول ما أنا بعيد عن الكتابة. فقال لى: ارجع اكتب من اليوم لو حبيت. فسررت بشدة ولكننى كنت على يقين بأن هيكل هو الوسيط الوحيد الذى يمكن أن يقبل عبدالناصر منه كلاماً أو وساطة فى موضوعى لمدى قربه منه وثقته فيه ولكننى لم ألجأ إليه منذ البداية.. وعندما سألناه لماذا لم تلجأ إليه رفض الخوض فى التفاصيل وانتقل إلى موضوع آخر.
قال مصطفى محمود: لأن القدر يلعب دوره دائما معى فبالترتيب الإلهى فقط.. حدث أثناء عام النفى والحجب عن ممارسة الكتابة أن قابلت زميل الدراسة فى كلية الطب وصديقى الذى كان حبيباً إلى قلبى الدكتور أنور المفتى، وكان يعمل طبيباً خاصاً لعبدالناصر وطلبت منه التحدث إلى عبدالناصر لكى أعود إلى الكتابة من جديد، ووجدته يقول لى:

يا مصطفى أنت تعرف مدى حبى الشديد لك وبسبب هذا الحب فكرت حينما علمت بمنعك من الكتابة أن أتحدث إلى عبدالناصر أثناء إشرافى الطبى اليومى عليه، لكننى تراجعت لأن هناك قصة منتشرة حوله وهى أنه يجازى من يطلبون منه طلبات خاصة، حيث تجرأ ذات مرة سائقه الخاص وطلب منه طلباً خاصاً فأصدر قراراً بفصله من العمل فى اليوم التالى مباشرة، ولهذا فقد انتابنى شعور الخوف لأنه سيترتب على ذلك إبعادى عن عملى ووظيفتى كطبيب خاص له مثلما أبعد سائقه الخاص،

كما أنه يمكن أن يظن أننى أؤمن بنفس أفكارك وبالتالى سيترتب على ذلك شعوره بأننى خطر على حياته، خاصة وأنا طبيبه الخاص فيلفق لى تهمة ترمينى وراء الشمس وأنا لى زوجة وأولاد كما تعرف، كما أننى بحكم قربى منه سمعت وعرفت وشاهدت كيف يختفى من الوجود من يعارضه بمجرد إشارة من إصبعه خاصة وإنه يكرهك ويقول عليك «الواد ده ملحد وخطر على المصريين»، فقلت له لهذه الدرجة كرهه لى وقسوته مع من يتعاملون معه، فقال الدكتور أنور المفتى:

عبدالناصر يتمتع بعصبية غير عادية ومريض بجنون العظمة ويمكن أن تقول عليه «مجنون بذاته».. والغريب أنه بعد أقل من ثلاث سنوات توفى الدكتور أنور المفتى فى ظروف غامضة وتعددت الشائعات حول وفاته.. لكن الثابت فى التحقيقات أن زوجته قالت إنه ليلة وفاته بعد عودته إلى المنزل «تناولنا العشاء، وبعد ذلك نظر فى المرآة بعض الوقت وقال لى أشعر بأنى لن أعيش أكثر من أربع ساعات» إذ أنه اكتشف أعراض تسمم تظهر عليه ومن بينها كان «بؤبؤ» عينيه يتحرك وهذا الحادث أثر على كثيراً.. وأثارنى أنا وغيرى من أصدقاء الدكتور أنور المفتى.. ولم نجد تفسيراً أبداً لهذا السؤال: من اليد الخفية وراء مقتل أنور المفتى.. ومن المستفيد من وفاته!

والعجيب أنه أثناء انشغالنا بهذا الحادث كثيراً فوجئنا بوفاة عبدالحكيم عامر بنفس الأسلوب دون تفسير أو إعلان عن حقيقة ما حدث له، وزاد الأمر بشكل كارثى بعد نشر التحقيقات مع صلاح نصر عقب القبض عليه، واعترف بأنه كانت دائماً بحوزته سموم من أنواع نادرة وكان يستعملها كلما وجد الحاجة لإسكات بوق عالى الصوت.

وانتهت هذه الحكايات بموت عبدالناصر نفسه.. هناك تساؤل يجب ألا يمر دون أن نقف أمامه وهو: كيف توفى جمال عبدالناصر؟!

قيل عن وفاته الأقاويل الكثيرة والمتعددة، وكان من بينها أنه مات مسموماً، ولكن الحقيقة أن عبدالناصر مات لأنه مريض بالسكر ولتقصير وإهمال الطبيب فى تشخيص حالته الصحية بالخطأ، فكان يمكن إنقاذه من الموت بحقنة جلوكوز فى الوريد فتنتهى أزمة وغيبوبة السكر التى تعرض لها، ولكن أخطأ الطبيب الذى يعالجه أو ربما تعمد الطبيب أن يخطئ وعرف تشخيص حالته بشكل صحيح ولكنه لم يسعفه فقد مات عبدالناصر نتيجة غيبوبة السكر التى هاجمته، حيث كان مريضاً «بالسكر البرونزى» وهو أحد أندر أنواع مرض السكر، ومن أسهل ما يمكن أن يموت مريض هذا النوع فى حالة إذا تعرض للإهمال الطبى، وهذا هو ما حدث।



مذكرات د : مصطفى محمود " رأيت «ملك الموت» " ( الحلقة الرابعة )



أراد مصطفى محمود أن يدخلنا معه فى الحوار فسألنا عن الأفكار التى تشغل بال هذه الأجيال - يقصد جيلنا الحالى طبعا - فأجبناه عن كل تساؤلاته.. فكر بعض الوقت وكأنه لم يجد فيها ما يثير الانتباه.. أو أنه انتهى تفكيره إلى أنها ليست أفكاراً بالمرة فزم شفتيه ثم قال: أريد أن أتكلم عن أفكارى وأنا فى المرحلة ما بين دراسة الطب وبين الثلاثين.. كنت فى مثل عمرك تقريبا وما الذى شغلنى فى هذه الفترة وكيف كنت أفكر ثم أردف: كان هناك خليط من خطوات فكرية تنضج بداخلى..

أفكار عن (الغيب والموت والقدر والعدالة) هل كان صراع الأفكار هذا بداخلى نتيجة لازدحام الساحة بكم كبير من أفكار الفلسفة الوجودية المادية فى هذه الفترة.. ربما.. لكن المؤكد أن هذه الأفكار تشغلنى منذ طفولتى كما سبق أن أشرت- أى عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم- بينما هذه الأفكار بدأت تأخذ طريقها إلى الساحة فى مصر بعد الحرب العالمية ضمن حلقات انتشارها على المستوى العالمى نتيجة ليأس الفلاسفة من كل المناهج المطروحة وقتها وكان يتمثل فشلها فى عجزها عن وقف بحر الدم والعنف الذى شهده العالم أثناء الحرب العالمية الثانية.. إذا أنا سبقت انتشار هذه الفلسفة والأفكار بحوالى عقدين من الزمن.

ولكن الحقيقة أن من أكثر الأفكار التى شغلتنى عموما منذ طفولتى حتى الآن فكرة الموت.. دائما كنت أتصور أن عمرى قصير جدا وأنى سأموت.. بين الحين والآخر كنت أقف أمام المرآة وعمرى عشر سنوات وأقول بصوت مرتفع جدا الموت يطاردنى يقف خلفى وأمامى وبجوارى ألا أستطيع الهروب منه.. أنا بالفعل كنت أرى ملك الموت وكأنه يحاوطنى.. وكنت أشعر كل صباح يوم جديد أن ساعتى قد حانت وكنت أخبر أهلى بذلك..

وهذا أثار خوف وقلق والدى وأمى على وذهبا بى إلى الأطباء وعندما لم يجدا علاجاً يشفينى «طبيعتى المختلفة عن أقرانى كانت تدفعهما دائما لتخيل أنى أقترب من الجنون» فذهبا بى إلى المشايخ والعرافين الذين كانوا يتواجدون بكثرة فى الريف ولكنهم أيضا لم يجدوا كلاما يقولونه غير أن يخترعوا أنى ممسوس أو «مخاوى جن» من تحت الأرض «لاحظوا أن شائعات الجنون وقربى من الجان تطاردنى منذ الطفولة» ولعل السبب فى كل ذلك أن المرض دائما يهاجمنى فأصبح بالنسبة لى يمثل مشكلة خطيرة جدا فما بالكم بطفل صغير لا يستطيع أن يجرى ويصارع من هم فى مثل عمره..

حالته الصحية متدهورة ولا تسمح بذلك والحقيقة أنى من أجل هذا اخترت كلية الطب دون غيرها من الكليات إضافة إلى أسباب أوضحتها سابقا حيث كانت كلية الحقوق فى ذلك الوقت من كليات القمة ويتخرج فيها الوزراء والسياسيون ورغم إلحاح الأسرة على بأن ألتحق بها إلا أنى تمردت على رغبتهم «الواضح حياتى كانت عبارة عن سلسلة من التمرد المستمر» واخترت كلية الطب لأننى حريص على التعرف على أدق تفاصيل وأسرار الأمراض والأزمات الصحية وكيف يمكن التخلص منها.

أردت أن أتعرف على طريقة أتخلص بها من عللى ومرضى المستمر الذى لم يستطع طبيب أن يشفينى منه واكتشفت فى هذا التوقيت أن الموت والمرض مشكلة كبرى بالنسبة لى فالمرض بالنسبة لى يمثل الموت وأن المؤشرات والعلامات التى تسبقه قد تتمثل فى موت العينين والساق والذراع والإحساس وعانيت كثيرا من أجل الوصول لما توصلت له وعندما مارست الطب سنتين بعد التخرج كنت أعتبر أنى حققت انتصاراً كبيراً على الموت عندما أتغلب على المرض الموجود داخل المرضى، ولكن كان يصيبنى الإحباط الشديد عندما ينتصر المرض على ويسوق أمامه للموت روح مريض وينظر لى ويخرج لسانه معلنا أنى لا أقوى عليه وذهلت عندما وقفت لأول مرة أمام طاولة التشريح.. أمام الجثة..

ولم تحدث لى عملية إغماء أو حتى مجرد شعور بالخوف كما كان يحدث لبعض زملائى وتعلمت من يومها أن كل إنسان يحمل الموت بداخله وبأنى أحمل الموت بداخلى أيضا حتى ولو كانت صحتى جيدة وأن الموت يسكن معى وتعلمت أن الإنسان كلما ازداد عمره سقطت الخلايا الميتة من جسده، وأن اللعاب الذى يطرده من فمه يحمل بداخله ملايين الخلايا الميتة وأن دم الإنسان يحوى كل ساعة ٦٠ مليون خلية من الخلايا الحمراء والخلايا البيضاء وبعد صراع مرير تقتل خلايا الدم البيضاء البكتيريا الموجودة بخلايا الدم الحمراء وتسوق جثث الموتى إلى الكبد الذى يمكنه التعامل مع هذه الجثث ويحولها إلى مرارة وصفراء والجسم يتعامل مع كل هذه الجثث.. يحللها ويستفيد منها ويحولها إلى عصارات مختلفة.. ووجدتنى أسأل نفسى هل كان الموت يعمل داخلى طوال هذه السنوات ليل نهار وأنا لا أدرى بحقيقة المعركة الدائرة بداخلى؟

وعرفت من يومها بأن الموت أكبر من أن يكون كلمة فهو واقع يدور داخلى وأن عملية الهدم والبناء تتم دون أن أدرى وأن الهدم داخلى وداخل كل إنسان منذ الولادة ولكن البناء غالب عليه حتى يحدث التوازن فى سن الأربعين ثم تبدأ عملية النزول والهدم التى تتزايد وبالتالى إذا كان البناء غالبا فأنا شاب وإذا كان الهدم غالبا فأنا دخلت مرحلة الشيخوخة وقد كنت منذ طفولتى أشعر بأن الموت قريب منى وأسمع خطوات أقدامه وهى تقترب منى كل يوم وكنت باستمرار أحدق فى الموت وأنظر إليه وأصرخ فيه كما كنت أفعل أمام المرآة وأنا طفل صغير «أنا أرى الموت..

أرى ملك الموت ولست خائفاً فكنت أتحداه دائما وأحدق فيه لدرجة أننى كنت أتوقع دائما أننى سأموت مبكرا ولم أتوقع أن أصل إلى الـ٨٨ عاما من عمرى وكنت دائما أقول سأموت فى سن الثلاثين ولكن «أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد» ورغم كل هذا ظل الموت معى يأكل ويشرب ويعيش ويتنفس بين ضلوعى ويسيطر على وجدانى وأصبح مشكلة وكارثة تصاحبنى أينما ذهبت.. ففى خلوتى الأخيرة التى امتدت لعشرين عاما ظهر لى كثيرا وواجهته كثيرا وتغلبت عليه وكنت أنا المنتصر.. وفى تكوينى وفكرى الموت مرتبط بشكل كبير بالفن والدين وبالفعل كان هو السبب فى تكوينى وفكرى وحبى للموسيقى.

والحياة بالنسبة لى كما يعرفها المقربون منى منذ الصغر نظام دقيق للغاية ومرتب، فليس هناك شك أن الحياة والموت ليسا النهاية، ولكن البداية الحقيقية فى حياة البرزخ وهى الحياة التى تظل الأرواح جميعا متعلقة بها إلى أن يأذن الله بالفناء للبشرية الموجودة على الأرض ولهذا فإنى كنت دائما حريصاً على أن أفعل شيئا ما دام هناك متسع من الوقت يكفى لذلك وكان من الأسباب التى تدفعنى للعمل والإنجاز إحساسى بالموت الذى يقترب منى كل لحظة وكل ثانية.

كما أخبرتكما أن هذه الأفكار كانت تنتابنى وأنا طالب جامعى وكانت تظهر فى شكل مقالات مسلسلة فى مجلة (روزاليوسف) التى كانت منبراً صحفياً كبيراً وقتها لأنها تمردت على السياق العام للصحافة فى مصر.. كنت أنشر هذه المقالات سواء كانت فكرية عامة أو فلسفية بالخصوص إضافة إلى كتابة القصة القصيرة.. وبعد أن أنهيت الجامعة عملت فى مستشفى أم المصريين لمدة عامين..

فى هذه الفترة كانت حركة الضباط الأحرار فى عام ١٩٥٢ والتى رحبت بها كثيرا لأنها تمثل تمرد الجيش والشعب على النظام الملكى الفاسد فكان التمرد على الواقع هو ما يلفت انتباهى دائما ولكن خذلتنا هذه الثورة بعد ذلك فقد حررت الدولة المصرية لاستعباد الشعب المصرى وكنت وقتها أداوم على نشر مقالاتى فى «روزاليوسف» عندما فوجئ إحسان عبدالقدوس باستدعائه من قبل رجال الثورة «كان هذا أول صدام بينى وبين جمال عبدالناصر» للتحقيق معه حول ما نشر بمجلته وكيف يقوم مصطفى محمود بنشر هذه الأفكار فى مجلته

وقال إحسان لهم «أنا أعطى الحرية للكتاب الذين يعملون داخل مجلتى وأؤمن بالحرية التى تؤمنون بها والتى تنادون أنتم بها.. من الممكن أن أكون غير متفق مع مصطفى محمود فى أفكاره وفيما يكتب لكننى لا أستطيع تقييد حريته والأمانة الصحفية تمنعنى من التدخل بل وأن أعطيه مساحة ليعبر عن رأيه وليس هو وحده ولكن هذا ينطبق على كل الصحفيين فى مجلتى وحق الرد متاح للجميع».

أنتم تلاحظون أن إحسان عبدالقدوس قد دعمنى ووقف بجانبى وقت أن كان هو العملاق عبدالقدوس ولم ينس رجال الثورة وعلى رأسهم عبدالناصر هذا الموقف لإحسان وردوا عليه بعد ذلك بسحله وسجنه وكيف أنهم لم يستطيعوا أن يدينونى أيام المقالات وظهر موقفهم عندما جمعت هذه المقالات فى كتابى الأول «الله والإنسان» عام ١٩٥٦ إذا غضضنا النظر عن المجموعة القصصية الأولى «أكل عيش».

على الرغم من أن الإعلام لم يكن بمثل هذا الحجم وكان الاعتماد كله على الصحافة الورقية إلا أنك تستطيع أن تؤكد أن الحياة فى مصر قد توقفت بالفعل بعد إصدار الكتاب ورواجه.. لم يعتد الناس على مثل هذه الأفكار أو على الأقل هذه الطريقة فى طرحها.. انقلبت الدنيا من حولى.. أصبح كل واحد يكتب عن الموضوع بمزاجه، من وصفنى بأننى فيلسوف العصر الجديد ومن وصفنى بالملحد والشيوعى والكافر و.. و.. وهنا ضحك مصطفى محمود حتى دمعت عيناه اللتان أصابهما المرض مؤخرا.. وقال من الطريف أن دارا حكومية «دار الجمهورية للنشر» هى التى وافقت على طبع الكتاب ونشره وكان يشرف عليها فى ذلك الوقت أنور السادات وحقق الكتاب رواجا كبيرا..

والطريف أيضا أن المفتى كان قد قرأ هذا الكتاب وأبدى رأيه بأن هذا الأسلوب يبشرنا بكاتب كبير وعالم ومفكر وكان هذا اعترافا رسميا من الدولة بهذا الكتاب وقيمته ولكن قضاة التفتيش الجدد رفضوا الكتاب وثاروا وهاجوا وسبوا وقالوا هذا الكاتب أصابه الجنون أو كفر وقدموا مجموعة الشكاوى ضدى للقضاء وتمت مصادرة النسخ المعدودة المتبقية فى الأسواق من الكتاب بعد أن تخاطفه الكثير من المصريين الذين كانوا يرغبون فى من يكسر لهم الظلام ويطير الخفافيش التى تتزايد داخله ويفسر لهم حقيقة ما يجرى لأنهم سئموا من أن تفرض عليهم الأشياء باعتبارها «واقع ولازم يقبلوه»..

وتحولت الدعاوى التى قدمت ضدى إلى قضية كبرى تناولها معظم صحفيى مصر ، وظلت القضية تنظر أمام محكمة أمن الدولة شهوراً خرجت خلالها شائعات كثيرة ومتعددة وكان من بينها «أنهم سيحكمون بكفرى وارتدادى عن الدين ومن ثم إعدامى،

وآخر أن علماء الأزهر انتهوا بالفعل للحكم علىّ بالكفر والارتداد عن الدين» وظلت الشائعات تظهر شائعة تلو الأخرى وتتردد فى أرجاء مصر حتى تقرر إصدار الحكم فى القضية فى شهر رمضان وذلك بغرض تشديد الحكم وعدم استخدام الرأفة وأتذكر أيامها أن إحسان عبدالقدوس استعان بمحام كان اسمه محمود وكان قد اشتهر وبرع فى الترافع عن جرائم النشر وكان يتحدث عما يجرى من أعمال قمع وقهر وإرهاب وديكتاتورية ومصادرة الكتب والأفكار

وأذكر أيضا أنه أثناء المرافعات قال لى إن ما كتبته فى كتابك هذا كلام يستخدمه كبار الصوفية وبعد سلسلة مرافعات طويلة استغرقتها المحاكمة التى كانت تتداول فى حجرة مغلقة وسرية واستغرقت المرافعات ساعات طويلة ولكن لا يستطيع القضاة فى ذلك الوقت الحرج فى تاريخ مصر إلا إرضاء جمال عبدالناصر الذى أصدر حكمه من أول يوم بمصادرة الكتاب ورغم كل المرافعات وما استندت إليه من أقوال الصوفية فقد أصدرت محكمة أمن الدولة الحكم بمصادرة الكتاب وعدم خروجه للنور وبالطبع خرج الحكم دون حيثيات ورغم ذلك صادروه بأمر جمال عبدالناصر.

وتقبلت اتهامى بالكفر وأنا فى بداية حياتى بأن أغلقت على نفسى باب شقتى.. واعتزلت من هول الصدمة حيث كانت عواطفى مازالت حساسة فلما أخذت الأفكار تهاجمنى.. لقد كفرونى لأنى امتلكت نفس ما امتلكوه.. نفس مؤهلاتهم.. القدرة على جذب الانتباه.. القدرة على جعل الآخرين يستمعون ويؤمنون بما أقول.. كفرونى.. قالوا نقضى عليه وهو صغير.. وناجيت روح أبى.. لقد اتهمونى بالكفر يا أبى.. أنا ابنك اصطحبتنى إلى المسجد وأنا ابن الثالثة وألبستنى الطاقية والجلباب الصغير.. أنا الذى حفظتنى القرآن والحديث بينما مازال من فى مثل عمرى يلعبون فى تراب الشارع..

أين أنت يا أبى لتدفعهم بعيدا بأيديك الكبيرة الحانية.. لا تدفعهم بعيدا عنى فقط بل تدفعهم بعيدا عن هذا البلد الطيب.. الذى يحاوطونه كالسرطان.. وجعلوا من يفكر يكفر.. جاءت أمى إلى.. جاءت بجلبابها وطرحتها.. افترشت سجادة الصلاة وأخذت رأسى فى حجرها.. وظللت فترة طويلة على هذا الحال.. ورغم أن معظم أفكار الكتاب لم تقترب من الأساسيات والثوابت مثل الله بل كانت فى (مسألة القضاء والقدر والجنة والنار والصواب والخطأ وقضايا الجبر والاختيار والبعث والخلود) إلا أن رجال الدين يعتبرون أن مجرد التفكير فى مثل هذه الأشياء هو الكفر ولكنهم لا يعلمون أن التفكير فى مثل هذه الأشياء منتهى الإيمان لأننى مفكر أبحث عن أشياء تزيد من إيمانى وتعلقى بالله سبحانه وتعالى وقديما كانوا يفكرون فى هذه الشكوك دون أن يعرضوا للرجم أو القتل .

فى بعض الأحيان قادنى تفكيرى لأتساءل هل كان ضروريا نزول الوحى والإلهام بواسطة جبريل على النبى صلى الله عليه وسلم ولماذا لم يلهمه الله مثلما ألهم الفنانين والموسيقيين والعلماء فى لحظات الإبداع والاختراع؟ وكانت قصة الوحى تشغلنى بشكل كبير وكنت دائما أفكر فيها ولكن بمجرد أن طرحت السؤال وبدأت البحث عن إجابة تعالت أصوات بتكفيرى مرة أخرى وكأنه لا توجد تهمة للمفكرين والباحثين عن الحقيقة غير التكفير وهذه القضايا تغير تفكيرى فيها بعد وصولى لليقين فسبحانه وتعالى كان لابد أن يميز رسوله عن بيتهوفن وجوخ وبيكاسو وقيس وعنترة،

وبعد بحث طويل فى القرآن أحسست أنه كتاب عجيب دستور لكل البشر وذلك لأنى حين قرأت كل الأديان أحسست أنها جميعا تتحدث عن شىء واحد لاشك فيه هو وحدانية الله ولكن اكتشفت أن الأديان القديمة مضت عليها القرون وتم تحريفها ودخلتها مصالح الكهنة وكانوا هم السبب فى كل هذه الفروق بين دين وآخر فكل واحد منهم يريد أن يستغل الدين لأغراض ومصالح شخصية حتى فى مصر القديمة «الفرعونية» كانت الديانة توحيدية والدليل هو كتاب الموتى ولكن الكهنة الذين يريدون أن يشيدوا المعابد اخترعوا آلافاً من الآلهة ليحصلوا من ورائها على القرابين وهذا ما حدث مع الأنبياء أيضا فكلما مات نبى خرج المنتفعون وحرفوا ليستفيدوا بالمكاسب المادية وجاء بعد ذلك عصر الملوك والرؤساء والسياسات المختلفة التى نعرفها الآن والتى زادت الأمر سوءا حيث إن العلمانيين يرددون شعارهم «كيف أسير إلى الأمام وأنا ألتفت إلى الخلف» ومن هنا يقولون العلم يتناقض مع الإيمان وقد نسوا أن كتاب الله سبحانه وتعالى يقود إلى أفضل طريق.. إلى الله..

وبعد مصادرة كتابى وجدت الماركسيين فى مصر يرفعوننى إلى السماء ويعلنون أنى أصبحت من كبار مفكرى الماركسية والشيوعية فى مصر وازداد إعجابهم بى وتأييدهم لى عندما كتبت قصة عن رجل زبال ونشرتها فى مجلة صباح الخير وكانت المجلة فى بدايات إصداراتها وبعدها وجدت أن الشيوعيين يصفوننى بأنى أعظم كاتب وأكبر مفكر وقيل عنى يومها إن تشيكوف مجددا يظهر فى مصر يحمل اسم مصطفى محمود وكنت مندهشا لكل ما يحدث حولى ومندهشا أكثر لإعجابهم بهذه القصة رغم أنها قصة عادية للغاية ولم أشترك معهم أو أنضم إليهم بل تجاهلتهم بعد ذلك بأن حذفت هذه القصة من جميع مؤلفاتى،

ولكنهم سرعان ما تحولوا ضدى بعد ذلك ووجهوا إلى الكثير من الاتهامات ومنها الردة الفكرية وكانت مدرسة ظهرت فى ذلك الوقت على يد محمود أمين العالم وكانت ترغب فى أن ينادى الكتاب جميعهم بالاشتراكية العلمية والشيوعية والماركسية ومن يخالفهم لا يعد أديبا أو مفكرا وأكبر دليل أنهم رفعونى إلى السماء ولذلك قرأت عن الفكر الماركسى بإمعان فلم أشعر باقتناع ودار داخلى حوار طويل ووجدت أنه يجب أن أغلق على نفسى باب حجرتى وظللت أمارس قراءتى فى معظم كتب الفلسفة وعلم النفس مثل (أفلاطون وأرسطو وهيجل وبكارل وماركس ووليم جيمس) وقراءة الأديان (الفيدات الهندية والبوذية والزرادشتية)

وفى النهاية وصلت إلى الإيمان فى حين أن اليسار فى الستينيات كان قد أصبح اتجاها قوياً موجوداً على الساحة وله ثقله وقد توغلت يده إلى الأدب والسينما والمسرح فتسبب نظام الاقتصاد الشمولى الذى طالب به فى الفقر والجوع للمصريين وهذا ما توقعته ولكنهم بعد ذلك وفى دقائق معدودة وجدوا صحف العالم والإذاعات والشعوب تنادى بسقوطهم.. سقوط الشيوعية..

وسقط هؤلاء الأشخاص الذين عندما تمردت على أفكارهم وانتقدتهم اغتالونى فى موهبتى وفكرى وجردونى حتى من لقب الكاتب واتهمونى بالتخلف وهذه هى أفكارهم وطباعهم لأن الشيوعية والشيوعيين تنظيم إذا صادف فى طريقه كاتبا يميل لأفكارهم فإن مهمتهم تكون جذبه إليهم ومن بعد ذلك بدأت أعيد النظر فى كل شىء حولى وبدأت بمراجعة كتابى الأول «الله والإنسان» ووجدته مليئاً بالثغرات التى عدلت عنها وصححتها فى كتب أخرى.. وأنا هنا أعلن لأول مرة أننى تراجعت عن كل الأفكار المادية التى لا ترتبط بالدين والتى جاءت بكتابى الأول «الله والإنسان».

■ كفرونى لأنى امتلكت نفس ما امتلكوه.. نفس مؤهلاتهم.. القدرة على جذب الانتباه.. القدرة على جعل الآخرين يستمعون ويؤمنون بما أقول.. كفرونى.. قالوا نقضى عليه وهو صغير

■ أغلقت على نفسى باب شقتى.. وناجيت روح أبى.. لقد اتهمونى بالكفر يا أبى.. أنا ابنك الذى اصطحبتنى إلى المسجد وأنا ابن الثالثة.. أنا الذى حفظتنى القرآن والحديث بينما مَنْ فى مثل عمرى لم يتخطوا مرحلة اللعب فى تراب الشارع.. أين أنت يا أبى لتدفعهم بعيدا عنى بأيديك الكبيرة الحانية.. لا تدفعهم بعيدا عنى فقط بل تدفعهم بعيدا عن هذا البلد الطيب.. الذى يحاوطونه كالسرطان.. وجعلوا من يفكر يكفر

■ جاءت أمى إلىّ والتى كانت تتمثل فى شخصية أختى الكبيرة زكية.. جاءت بطرحتها وجلبابها.. افترشت سجادة الصلاة وأخذت رأسى فى حجرها.. وظللت فترة طويلة على هذه الحال.. حتى نهضت من جديد

■ كان يجب ألا أترك الساحة لخفافيش ظلام جدد.. لقضاة فى محاكم تفتيش جديدة

■ إن الناجح هو ذلك الذى يصرخ منذ ميلاده: جئت إلى العالم لأختلف معه.. لا يكف عن رفع يده فى براءة الأطفال ليحطم بها كل ظلم وكل باطل.

مصطفى محمود