adv

Hazooma blog in other languages

مذكرات د : مصطفى محمود " حكايتى مع التصوف والمتصوفين " ( الحلقة الرابعة و العشرون )


■ إن الحانوتى يسلب الموت كل هيبته بأن يجعله وظيفته وكذلك أنا أسلب الحياة كل بكارتها بأن أجعلها شغلتى
■ حاولت أن أناقش مشاكلنا كلها من جديد وأطرح التركة الفكرية التى ورثناها عن الجدود فى غربال واسع الخروم ليسقط منها الفاسد ويبقى الصالح
مصطفى محمود
العشق الإلهى.. والرجوع إليه.. والاعتراف بأنه الواحد الأحد.. كلها أشياء ولد مصطفى محمود يحملها بداخله.. لقد كان متصوفا منذ اللحظات الأول فى عمره لذا نجده، مر بمراحل متنوعة ومختلفة فى حياته بداية من الشك وانتهاءً بالإيمان والتصوف، وكان تصوفه يرافقه طوال مراحل الشك أو الإلحاد كما أطلق عليها البعض، فقد ولد مصطفى محمود متصوفاً مفعماً بحب الله منذ زمن بعيد، وكان وهو فى مطالع المراهقة يتساءل - فى تمرد- تساؤل كبار أقطاب الصوفية كالحلاج وابن عربى والنفرى والغزالى وأبوالعزايم والشعرانى.. وكانت كتبه «الله والإنسان» و«السر الأعظم» و«رأيت الله» و«لغز الحياة ولغز الموت» وغيرها، خير دليل على تصوفه وعشقه للذات الإلهية.
عندما فتحنا معه هذا الباب من الكلام ابتسم وقال كنت دائما أؤمن بأننى خلقت لأتساءل من أجل أن أثبت أنه الواحد الأحد، وكنت أقول «تقولون إن الله خلق الدنيا، لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولابد لكل صنعة من صانع ولابد لكل موجود من موجد.. صدقنا وآمنا.. فلتقولوا لى إذن من خلق الله.. أم أنه جاء بذاته.. فإذا كان قد جاء بذاته وصح فى تصوركم أن يتم هذا الأمر فلماذا لا يصح فى تصوركم أيضا أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهى الإشكال»، ولكن كنت أتوقع أن أجد من يجاوب عن أسئلتى ويفهمنى الصواب، ولكن لسوء الإدراك لدينا نحن المصريين..
كنت أجد أن نتائج ما أطرحه من أسئلة هى اتهامى بالكفر والإلحاد، رغم أن كل هذه الأسئلة لا تنم عن ملحد ولا تبشر الأرض بظهور كافر وإنما كانت تنم عن أن مرددها ليس طفلا صغيراً مدللاً، أقصى أحلامه لعبة يستمتع بها بعض الوقت ثم يحطمها، أو شاب فى مرحلة المراهقة يجرى وراء شهواته الجنسية أو المادية.. وإنما كانت هذه الأسئلة تنم عن أننى أجرى وراء شهواتى الفكرية، لأكتشف الحقيقة الوجودية، فقد كنت أقول بكل جرأة وبدون أن أخشى صفعة على وجهى أو عصا على ظهرى «لقد رفضت عبادة الله لأننى استغرقت فى عبادة نفسى،
وأعجبت بومضة النور التى بدأت تومض فى فكرى مع انفتاح الوعى» وأيضا كنت أردد أن هذه الحالة النفسية وراء المشهد الجدلى الذى يتكرر كل يوم وغابت عنى أيضا أصول المنطق، وأنا أعالج المنطق ولم أدرك أننى أتناقض مع نفسى إذ أعترف بالخالق.. ثم أقول ومن خلق الخالق فأجعل منه مخلوقا فى الوقت الذى أسميه فيه خالقاً، وهى السفسطة بعينها.. ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضى أن يكون السبب واجب الوجود فى ذاته وليس معتمدا ولا محتاجا لغيره لكى يوجد أما أن يكون السبب فى حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سبباً أول».
ويستطرد: «كنت أتعجب من كل الجدل الذى أواجهه بمجرد أن أتساءل وأستطيع الآن أن أقول إن هذه هى أبعاد القضية الفلسفية التى انتهت بأرسطو إلى القول بالسبب الأول والمحرك الأول للوجود وهى هذه الأفكار التى دفعته إلى الأمام.. وتستطيعون أن تقولوا إنها فعلت معى نفس الحكاية فكانت بداية التفكير والوصول إلى ذروة الإيمان والتصوف بداخلى، ولكن بمجرد أن اشتد عودى وخرجت إلى مرحلة الشباب وبدأت هذه الأفكار تخرج إلى المجتمع فى كتبى وبالأخص كتابى الأول «الله والإنسان» وجدت أن مشايخ الأزهر يصدرون فى الستينيات فتوى بتكفيرى «كما حدثتكم من قبل» وخرج بعض الشباب المتهور تحت لواء الجماعات الإسلامية التى تدعى الحفاظ على الإسلام والمسلمين ليحاولوا اغتيالى لمجرد أنى أتساءل..
وبالفعل نظموا هذا وكانوا حوالى إثنى عشر طفلاً، لأن أعمارهم حين ذاك لم تكن تتجاوز أربع عشرة سنة، ولكنى نفدت من هذا الاغتيال بأعجوبة وجلست معهم وطمأنتهم على أننى لن أبلغ عنهم ووجدت أنهم بحاجة إلى الشفقة وليس للسجن، حيث إنهم مازالوا أطفالاً لا يدركون ما يفعلون ولا يحفظون من القرآن والسنة ما يؤهلهم للدفاع عنهما.. ولكن تصوروا أن هذا كله يحدث معى وأنا مجرد باحث عن الحقيقة الوجودية وهذا من حقى ولا يمكن لأحد إجبارى على حجب أفكارى..
والغريب فى الأمر أننى كنت أطرح كل هذه الأسئلة التى لم يتسع لها عقول المتزمتين وكانت هى نفسها التساؤلات التى سألها من قبلى بقرون العديد من أقطاب الصوفية الكبار أمثال الحلاج وابن عربى والنفرى وعفيف الدين التلمسانى وعبدالوهاب الشعرانى وأتباعهم من بعدهم، وللأسف وجدت أن كل هؤلاء الأئمة العظام واجهوا جميعا نفس المصير الذى كنت أواجهه، وكأننا جئنا إلى بشر فضلوا الجعجعة الفاضية على العقل والمنطق والتفكير.. ولكن كان عصر هؤلاء الصوفية الكبار أكثر قسوة فصلب ابن عربى حتى الموت وأيضا الإمام الشعرانى وغيرهم كثيرون.
ويتابع مصطفى محمود «رغم كل الصعاب التى كنت أمر بها فإننى ظللت ثابتاً على موقفى وكنت أقول دائما إن الزاهد الموحد لا يقول أنا ولا يقول أنت ولا يقول هم ولا يقول نحن.. بل يقول هو لا يرى إلا هو.. ولا يقصد إلا هو.. لا إله إلا هو.. لا يخشى إلا هو.. ولا يتقى إلا هو.. ولا يرى ظاهرا ولا باطنا إلا هو.. فإذا أكل فهو يأكل من يده هو.. وإذا شرب فهو يشرب من كفه هو.. وإذا تلقى الرزق فمنه هو.. وإذا تلقى الحرمان فبتقديره هو.. وإذا قضى عليه بالشقاء فبقضائه هو.. «قل كل من عند الله»..
فإذا صبر فهو يصبر بالله على الله.. وإذا هرب فإنما يهرب من الله إلى الله.. وإذا استنجد فإنما يستنجد بالله على قضاء الله.. وإذا استعاذ فإنما يستعيذ بالله من قدرالله.. يستعيذ به من بلائه.. وما الشيطان فى النهاية إلا ابتلاء الله لعباده.. وما الكون إلا مظاهر أسماء الله وتجليات صفاته وأفعاله.. فهو لا يرى فى أى شىء إلا الله وفعل الله.. وهذا مطلق التوحيد.. وهذا غاية ما تقوله الأسماء لقلب المسلم.. فهى تقوده إلى مطلق التوحيد».
ويقول «فوجئت بأننى وصلت إلى النتيجة الطبيعية وهى أننى أنظر إلى كل الأشياء.. وكل المخلوقات.. نظرة الصوفى الذى آمن بأن الله ينزل فى كل المخلوقات وما المخلوقات إلا وسيلة للتعبير عن الله فيرى كل شىء بوضوح ويسر.. دون طلاسم أو ألغاز أو صعاب فمن يضل فى طريق الله ومن يسأل الناس والله بجانبه ومن يرى بشر والله أمامه وكان بحثى فى التصوف مختلفاً بعض الشىء عن أتباع الطرق المختلفة والمتنوعة.. فكنت أبحث لأننى أريد أن أكتشف الجديد حتى فى هذا الجانب «التصوف» وبالفعل وجدت أن قدماء المصريين «الفراعنة» عرفوا التصوف والإيمان والتفانى فيه وله ومن أجله، حيث كان يقول «هيرودوت»
إن المصريين القدماء كانوا أول الموحدين فى العالم وإن بقية العالم أخذ الدين عنهم فأخذت الهند شعائرها واليونان عقائدها من مصر.. وقد كانت بداية هذا التوحيد فى عصر «أمنحتب» فى تلك الترنيمة المحفورة على لوحة بالمتحف البريطانى وهى صورة ابتهال ومناجاة للإله.. ونصها هو.. «أيها الصانع الذى صورت نفسك بنفسك وصنعت أعضاءك بيديك.. أيها الخالق الذى لم يخلقك أحد.. الوحيد المنقطع القرين فى صفاتك.. والراعى ذو القوة والبأس.. والصانع الخالد فى آثاره التى لا يحيط بها حصر»، ويصل هذا التوحيد إلى ذروة فى النقاء والتجريد على يد إخناتون، حيث وجدت أنهم كانوا ينادونه بقول: «يا أتون الحى يا بدء الحياة.. إنك بعيد متعال..
ولكنك تشرق على وجوه الناس.. إنك تمنح الحياة للجنين فى بطن أمه.. وتعنى به طفلا.. وتسكن روعه فلا يبكى.. وتفتح فمه وتعلمه الكلام.. وتدبر له ما يحتاج إليه فى حياته.. وتعلم الفرخ كيف يثقب بيضته ويخرج.. وما أكثر مخلوقاتك.. يا واحد يا أحد ولا شبيه لك.. لقد خلقت الأرض حسبما تهوى.. خلقتك وحدك ولا شريك لك.. وخلقت ما عليها من إنسان وحيوان.. ودبرت لكل مخلوق حاجاته.. وقدرت له أيامه المعدودة.. وجعلت الناس أمما وقبائل ولغات متعددة.. وجعلت لهم الشتاء ليتعرفوا على بردك.. والصيف ليذوقوا حرارتك.. وصورتهم فى بطون أمهاتهم بالصور التى تشاء.. وأنزلت لهم الماء من السماء.. ليجرى أمواجا تتدافع وتروى حقولهم.. ما أعظم تدبيرك يا سيد الأبدية.. إنك فى قلبى.. وليس هناك من يعرفك.. غير ابنك الذى ولد من صلبك.. ملك مصر العليا والسفلى.. الذى يحيا فى الحق.. سيد الأرضين إخناتون».
ويوضح مصطفى محمود «فى هذه الفترة وجدت أننى يجب أن أخرج ما بداخلى من مشاعر التصوف فبدأت أقوم بإعداد بعض الكتابات الصوفية خاصة أننى متيم بهذه الحياة التى هجرت كل شىء من أجلها فكتبت قصة قصيرة عن هيام وحب وتجلى الصوفى الذى يرى الله فى كل شىء ويرى كل الأشياء الجميلة فى الله وداخل هذه القصة وجهت إلى بعض الصوفية فى مصر وليس المتصوفين نقدا حادا، حيث إننى وجدت أن هناك مسألة لا يمكن الصمت عنها وهى الخلط بين الظاهر والباطن.. وبين الأشياء والله.. حينما يدعون على الله أشياء غير حقيقية، وهو ما أغضب الكثير منهم بعد ذلك ووجهوا لى نقدا شديداً وكانت القصة هى الآتية:
«مد الرجل ساقيه فى البحر فى استرخاء لذيذ ونظر إلى البحر المديد الأزرق كأنه يشرب ويشرب لونه وترك روحه ترضع من هذه الشفافية اللؤلؤية والأنوار المتشععة الذائبة فى المياه.. شىء ما فى ذلك البحر كان يبدو لعينيه وكأنه من وراء العقل ومن وراء الحس شىء كالغيب يسطع خلال الظاهر، وتذكر كلمات ذلك الصوفى الذى قال إنه اشتاق إلى ربه وأنه احترق إليه شوقا وكاد عقله يهُلك عجزا عن بلوغه لولا أن نور الله كان يلوح له من وراء استار الغيب ومن خلال الجمال المتجلى فى الوجود فيروى ظمأه بين الحين والحين، وذلك هو الشرب والسكر الذى يحكى عنه الصوفية شرب الجمال المتجلى فى الوجود ذلك الشرب المغيب الذى يترك الروح نشوانة هيمانة تهتف.. الله.. الله.. وقد أدرك صاحبنا فى جلسته أمام البحر لأول مرة ذلك المعنى البعيد الذى يحكى عنه الصوفية، وشعر بذلك الشرب المغيب وهتفت روحه النشوانة، وقد أدركت طرفا من تلك الحضرة الإلهية المتجلية فى الأشياء التى هتفت فيها هيمانة سكرانة.. الله..
لقد اتصلت روحه لأول مرة بنبع الحُسن ومصدر الفتنة وسر الجلال والجمال فى الأشياء، وباشر تلك الرجفة الكهربائية وأحس بتلك الرعشة الروحية وهو يلامس السر السارى فى الوجود وفى نفسه وذلك هو حضور المحبوب المعشوقة التى كان يسأل عنها المحب الهيمان طوال الوقت ويبحث عنها ويرتحل اليها، هى طوال الوقت معه دون أن يدرى فى سواد عينيه وفى حنايا ضلوعه وأقرب اليه من حبل الوريد:
ومن عجب أنى أحن إليهمو
وأسأل عنهم من رأى وهمو معى
وترصدهم عينى وهم فى سوادها
ويشتاقهم قلبى وهم بين أضلعى
فما كان الحسن والجمال والفتنة التى لمح طرفا منها فى الشفاه والخدود والقدود إلا مددا من ذلك الغيب المغيب، ولا كان إلا تجليا لذات الحسن المتفردة «الذات الإلهية» التى هى أقرب إليه من نفسه وأقرب إلى عينيه من سوادهما وأقرب إلى لسانه من نطقه، إن ليلاه فيه وهو يقطع البوادى بحثا عنها «وذات الحسن المتفرد» التى أفاضت من حسنها البديع على كل شىء أقرب إليه من حبل وريده، وأوثق اتصالا به من دمه فى شرايينه، وحينما يدرك الصوفى ذلك يصيبه برد السلام ويهدأ فى جوانحه طائر القلب وتنشر عليه السكينة لواءها ويصبح صاحب الوجه النورانى والنفس المطمئنة الذى لا تزلزله الزلازل ولا تحركه النوازل».
ويستطرد «شعر صاحبنا بتلك الأنوار وهو جالس أمام البحر وأمامه قطف من عنب مثلج ورأى كل حبة عنب وكأنها تختزن داخلها نورا، وحينما ذابت فى فمه بردا وحلاوة شعر كأنما تعطيه سرها وتبوح له بمكنونها، وكان فى تذوقه لحلاوتها شيئا كالعبادة، وكأنما كان ربه هو الذى يطعمه ويسقيه مباشرة وبدون وساطة، ويناوله من كف الرحمانية ليأكل ويشرب.. وتذكر قول عميد العاشقين الإلهيين ابن الفارض حين قال:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم».
ويتابع مصطفى محمود «إن وصف الشاعر بخمر الكرم من قبل أن يخلق الكرم ويقصد بها خمر السر المودعة فى الأشياء من قبل أن تخلق الأشياء، تلك هى خمر الأنوار المودعة كل الأشياء، وكل مؤمن مازال يعاود السجود مثل الملائكة كلما استشعر هذه الأنوار وكلما باشر سرها وذاق حلاوتها سجدت جوارحه وهتفت.. الله.. الله.. ووشوش له البحر بهذه الكلمات وكاشفه بتلك الأسرار وهو يهدهده بأمواجه ويتناثر كحجاب الماس على وجه ساقيه، وبقدر ما كانت صفحة البحر تبدو له هادئة ساكنة مطمئنة كان باطن البحر يقول له: باطنى وسع العالمين وسع الحياة والموت وسع كل شىء علما.. كان البحر أشبه بالرمز المهموس والإشارة الدالة والمثل المضروب على القدرة..
فهو الظاهر سبحانه ولكنه ليس المظاهر وتلك هى الفتنة التى يقع فيها المؤمن والكافر، تقول له المظاهر الجميلة وهى تدعوه إلى نفسها بجمالها فى سورة البقرة: «إنما نحن فتنة فلا تكفر» فإذا افتتن بها ووقع فى أسر جمالها وعبدها وقع فى الشرك الخفى وهلك، وذلك هو حال الأغلبية والكثرة من عشاق المظاهر وعباد المال والجاه والنساء، وإذا أدرك أنها فتنة ليست منها ولكن من الله المتجلى فيها، وأنها كالمصابيح فى زجاجات.. مصابيح لا تضىء بذاتها وإنما بمدد وأسلاك من شجرة مباركة هى التى تأتى منها الإنارة لكل المصابيح،
فإذا أدرك ذلك تجاوز بعبادته كل المظاهر وكل المصابيح المنيرة وتوجه إلى الله الذى ينيرها كلها بنوره وخرج من زحام الكثرة إلى صفاء الوحدة واختص الله وحده دونها بالعبادة ونجا، وهو حال القلة من العارفين وهذا سر الدنيا ولهذا خلقها الله لتمتحن بإغرائها معادن النفوس ويتميز بها العارف من الجاهل وتتميز بها المراتب والمنازل والدرجات ويعرف بها أهل الصدق صدقهم وأهل الكذب كذبهم حينما تنشر الأعمال وتهتك الأسرار فى يوم الحشر ويوم التغابن الذى لا ينفع فيه ادعاء الأدعياء ويوم يشعر كل إنسان أنه غبن نفسه حينما تعجل لذة تافهة وزائلة لا تساوى شيئا وحرم نفسه من ميراث جنة لا تنفد لذائذها.. ووشوش له البحر وهمس له الموج وتناثر كالماس على وجهه وقدميه واتصل السر بالسر ومضى الحوار».
ولكن بعد كل هذه الرحلة الصوفية شديدة التجلى ختم مصطفى محمود حياته متصوفا فى حب الذات الإلهية التى بحث عنها كثيرا ووجدها أخيرا ثابتة كما نزلت على كل الأنبياء والرسل فهى محور كل الأشياء وأصل كل الأشياء ولولاها ما خلقت الأشياء كلها.. وهو هنا يقول .. «لم تكن رحلة البحث التى غُصت فيها بكل أعماقى وجسدى وفؤادى طوال حياته لتشككى فى الذات الإلهية، وإنما لأتحول إلى صوفى وعندما وجدت ما سعيت إليه سررت بما وجدت وعشت فى هيام وحب «الواحد الأحد» هدأت نفسى واطمأن قلبى وشعرت بأننى أديت ما خلقت من أجله وهو الإشارة إلى الثوابت الوجودية التى لابد أن نؤمن بها ولا نحيد عنها ولهذا كتبت أقول:
المـعـذرة.. حبيبتى برئت من يدى.. وبرئت من عينى.. وبرئت من فعلى.. وبرئت من جلدى.. إن كانت النوايا أثمة.. وخوفى من علم ربى بالسرائر.. ويلنا ظلمنا أنفسنا.. هلكنا من اليوم لا نجاة.. إن لم نفز بمغفرة.. يا ضيعة العمر إن لم نفز بمغفرة.. بل لا ييأس من روح الله إلا الكفرة.. ظلمت ربى الغفار الذى وسع كل شىء رحمة وعلما والذى خلق الضعف.. كيف لا يحنو عليه أكثر من حنو الأم بالوليد.. كيف لا يشفيه من نفسه ويرحمه».

0 التعليقات:

إرسال تعليق