■ قلت للسادات.. أتمنى - بصفة شخصية - أن أضيع عمرى فيما يعلى من صورة الإسلام الصحيح.
■ الإسلام أكبر من السؤال عن طول الجلباب واللحية والسواك سُنة ولا لأ.
■ ليست القضية أن نعرف من صنع الجماعات الإسلامية.. فنحن نرى فصائل الجماعات تقف وتهزم وتحرج أعتى قوة فى العالم .
■ هل من يساعد فى نهضة الجماعات الإسلامية محب للإسلام.. أم يفعل ذلك لمصالح خاصة؟!
■ إذا قامت الجماعات الإسلامية بإنهاء تلك المصالح ستساعد فى تحضير عفريت كبير.
■ هى الجماعات دى مين بالضبط «إخوان ولا جهاد ولا سلف ولا قطبيين.. ولا إيه».
مصطفى محمود
«كان السادات يغمض عينيه فيرى المستقبل.. ونحن نفتح عيوننا ولكن نرى الماضى» المشكلة الحقيقية التى واجهت فيلسوف الشرق - الدكتور مصطفى محمود - كانت طبيعة علاقته بالسلطة - فكما ذكرنا فى الحلقة السابقة.. كيف انتاب الدكتور مصطفى محمود الارتياب بعد الحفاوة التى وجدها فى استقبال محمد أنور السادات له بعد احتلاله منصب الرجل الثانى فى الدولة كنائب للرئيس جمال عبدالناصر.. وخطر على باله السؤال الأهم فى هذه اللحظة.. كيف ستكون طبيعة العلاقة بينه وبين السلطة التى أذاقته الكثير خلال الخمسة عشر عاماً السابقة.. وهنا يمكن أن نطرح السؤال هل سعى مصطفى محمود إلى السلطة؟
والإجابة بالفعل لم يسع إليها بل سعى السادات للوصول إلى عقلية مصطفى محمود بعد أن اكتشف الاثنان فى بعضهما ألفة، ووجد كل منهما عند الآخر متنفساً، لذا فقد جاهد الدكتور مصطفى محمود لفض أى ارتباط بينه وبين السلطة.. رفض بلباقة أى منصب يقترب منه وصده بشياكة متعللا للسادات - بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية - بأنه ليس بقادر على منصب وزير أو أى منصب آخر، وهو الذى فشل فى إدارة أصغر وحدات المجتمع - أسرته - وقال بالحرف (كيف سأقف أمام الله وأتحمل حسابه على المهمة والسلطة الملقاة على)!!
أما عن أهم النقاط التى ركز فيها الدكتور مصطفى محمود وهو يسرد ذكرياته مع السادات فهى الحرية التى تفتحت أمامه.. ككاتب.. وأمام الكثير من الكتاب الآخرين وهنا يقول المفكر الكبير مصطفى محمود.. الحقيقة تقال.. عصر الرئيس السادات كان عصراً مزدهراً للمثقف والكاتب.. فكان للمثقفين والكتاب والمفكرين مساحة غير متوقعة من الحرية فى التعبير عن آرائهم المختلفة وهم الذين عانوا كثيرا من قبل..
ووصل الأمر بالبعض إلى الهجرة وارتضاء حياة الهجرة طوعا أو نفيا.. عادت الحرية للكاتب وعاد هؤلاء المشردون فى الخارج وخرج المعذبون من المعتقلات بعد أن ألقى الرئيس السادات خطابه الشهير بأن يمارس الجميع عمله فى حرية تامة وأن يسارع كل الكتاب المشردين فى شوارع باريس والدول الأوروبية بالعودة إلى الوطن وذلك بعد قيامه بهدم المعتقلات والسجون التى قال عنها إنه أكثر شخص يحتقر هذه الأماكن ويعرف عواقبها وأضرارها لأنه مازال يعانى من أمراض بالمعدة بسبب سوء الأطعمة التى كان يتناولها أيام اعتقاله المتكرر قبل الثورة أثناء اشتغاله بالعمل السياسى واتهامه فى قضية التخابر مع الألمان وقضية اغتيال أمين عثمان وغيرها..
وبينما كان الجميع يتناقش حول العهد الجديد واختلافه عن العهد السابق.. فى مناقشات لا تضيف.. كنت أنا أستمتع بالعهد الجديد على طريقة عهد السادات بالتأكيد.. فقد أخرجت كل ما دونته وكتبته ولم ير النور بسبب ظروف هذا العهد السابق.. وبدأت مرحلة الاستمتاع - ولأول مرة تذوقت طعم الحرية - وأعطيت هذه المسرحيات والكتب لتنشر أولاً - كالعادة - مسلسلة فى مجلة صباح الخير إبان فترة رئاسة الأخ الكبير عبدالرحمن الشرقاوى..
وأتذكر أننى تعرضت لموجة من اعتراضات صلاح حافظ وزملائه على نشر هذه المسرحيات فذهبت فورا إلى صديقى الدكتور عبدالقادر حاتم وزير الإعلام فى هذه الفترة وصارحته بالأمر فقال لى سوف أتصل بالرئيس السادات فقلت له لا نريد أن نزعجه، فقال لى سيغضب جدا إذا لم أبلغه بمشكلة تعوقك أنت بالذات، فهو يكن لك معزة خاصة جدا ودائما يردد هذا أمامنا فى مجلس الوزراء عندما تأتى سيرتك.. وعندما أعرضت أنا عن الاتصال.. قام الدكتور عبدالقادر هو بالاتصال بالرئيس السادات وكان وقتها يستجم فى استراحة القناطر وفور أن أبلغه عبدالقادر أبدى استياءه الشديد وقال بالنص (كل كتب وروايات مصطفى محمود وأعماله الأدبية تنشر فورا بصورة لائقة ومسلسلة فى صباح الخير)..
وبالطبع غمرتنى السعادة لعدالة وإنصاف هذا الرجل لى، واتصل عبدالقادر حاتم بعبدالرحمن الشرقاوى وأبلغه بأوامر الرئيس، ولكن يبدو أن عبدالرحمن الشرقاوى ظن أن هذا الكلام غير حقيقي، فلم يهتم بالمسرحيات فأبلغت عبدالقادر مرة ثانية لأننى كنت حريصاً أن تخرج أعمالى إلى النور فما كان منه إلا أنه -على الفور- حدد موعدا للشرقاوى فى مكتبه بجريدة الأهرام لمقابلته وبمجرد أن شاهدنى الشرقاوى فى مكتب عبدالقادر حاتم بالأهرام، أخذنى بالأحضان وقال لى رواياتك تحفة رائعة، وأنا سوف أنشرها داخل العدد القادم لمجلة صباح الخير..
وبعد يومين وكان اليوم بالتحديد الخميس ليلا.. وجدت اتصالاً من الرئيس السادات يسألنى ماذا لو صلينا غدا الجمعة معا.. ورحبت طبعا وأنا تغمرنى السعادة لبساطة هذا الرجل وفى العاشرة وجدت سائقه على بابى يسألنى هل استعددت.. كانت السيارة الخاصة بالرئيس.. السيارة الأولى فى الدولة.. وقد اندهش ابنى أدهم من هذا الوضع وحاول أن يسألنى عن هذا الوضع الغريب الذى لم يتعود أن يراه، ولكن كان من الصعب على أن أقول له إن هذه سيارة الرئيس السادات الخاصة.. تحملنى إليه لنتشاور فى قضايا تخص الدولة والشعب، فقد كان صغيرا.. وهذه سيارة الرجل الأول!! ولكنه عرف كل شىء بعد ذلك.
وذهبت متوقعا أن أقابل الرئيس فى قصره لكنى فوجئت بالسيارة تشق طريقها إلى بلدة السادات الأصلية بمحافظة المنوفية - ميت أبوالكوم - وصليت معه والحضور وسألنى عن أحوالى، ودخلنا على مائدة الغداء.. وضحك من نظامى الغذائى الحذر من أى طعام ثقيل على المعدة وسألنى بغتة.. إيه رأيك فى الجماعات الإسلامية يا دكتور؟؟ وايه رأيك فى الشغل اللى عاملينه فى الجامعات والمساجد؟؟
الإجابة كانت على لسانى.. أنا دائما لا تقف أمامى أسئلة من هذا النوع.. يكفى أن قضيت أربعين عاما من عمرى أفكر فى القضية التى أسأل عنها اليوم.. ولكن هل تكفى أربعون عاما للإجابة عن سؤال الحاكم الذى يصدر القرارات.. وصمت قليلا.. واحترم هو صمتى.. وأجبت بصوت منخفض ارتفع تدريجيا.. «الموضوع أكبر من السؤال اللى حضرتك بتسأله.. بمعنى.. الجماعات دى بتاعت مين.. يعنى هى صناعة إيه.. وحضرتك خير اللى عارفين إن احنا مابنصنعشى حاجه.. السؤال ده المفروض حضرتك تقسمه لعدة أسئلة.. أولها.. مين صنعها؟؟
مين صنع الجماعات دى.. حضرتك بتشوف فصائل الجماعات بتقف وتهزم وتحرج أعتى قوة فى العالم - يقصد أفغانستان القديمة أمام الاتحاد السوفيتى قبل سقوطه - واللى بيساعد فى قومة الجماعات الإسلامية دى عشان هو بيحب الإسلام.. ولا عشان مصالحه.. وإذا قامت الجماعات الإسلامية بإنهاء مصالحه وتنفيذ أجندته من غير ما يدرى هايكون حضر عفريت كبير..
والسؤال التانى الفصايل اللى عندنا فى مصر من أى الأنواع هل هو مصنوع أم منشق.. يعنى فى الأول والآخر هل هو بينه وبين الغرب أجندة أم لا.. وبعدين الجماعات اللى عندنا فى مصر دى مختلفة قوى ياريس.. يعنى يجبرونا نسأل سؤال تالت مهم قوى.. هى الجماعات دى مين؟؟.. إخوان ولا جهاد ولا سلف ولا قطبيين.. ولا.. ولا.. «وقلت له.. بصفة شخصية «يا ريس أنا أتمنى أى حاجه تخص الإسلام نجمها يعلى يعنى بصورة أوضح هو ده اللى المفروض أضيع عمرى عشانه بس هى المشكلة يا ريس إن احنا نتفق معاهم على معنى للإسلام..
وبعدين الإسلام مش هو اللحية وطولها إيه والسواك قبل الصلاة سُنة ولا طول الجلباب.. والبدل دى كفر ولا لازم الجلباب.. مش هو ده الإسلام اللى نساعد على نشره يا ريس.. الإسلام اللى نشيله فوق اكتافنا.. هو الإسلام الداخلى.. هو كرامة المسلمين.. ماينفعشى ياريس العالم كله قاعد يحتفى بالطيار اللى عطل رحلته ونزل من السماء عشان ينقذ قطة كانت مزنوقة فى المحرك.. واحنا المسلمين الملايين بيموتوا من الجوع والفقر كل يوم.. ويقوموا يطلعوا خنجر فى ضهرنا اسمه الجماعات الإسلامية»!!
اندهشنا.. واستمعنا فى ذهول لهذا الحوار التاريخى.. مصطفى محمود لخص مشكلة الإسلام والمسلمين وعلاقتهم بنا وعلاقة الغرب بالجماعات واختلاف الجماعات فى سبع دقائق.. لخص ما شغل كتاباً وصحفيين وساسة دول العالم الغربى والشرقى فى دقائق.. هل قلت هذا للرئيس السادات؟ نعم.. ولم يقاطعنى أو يشرد أو يضحك مع انفعالى.. فقط استمع.. واستمع بدون أن يقاطعنى.. أنا لم أنقل لكم الحوار بكل تفاصيله.. وكان هذا الموضوع هو الجرح الذى أثارنى.. حيث يتعلق بالإسلام والإسلام الجديد والمسلمين الجدد.. وأين إسلام الأزهر من كل هذه الجماعات.. وحال المسلمين وسط كل هذه الأحداث .
الحقيقة أننى عندما توطدت الصلة بيننا أحببته.. أحببت السادات.. وأحببته أكثر لأننى وجدت فيه مصرية خالصة فكان يحب أن يعيش حياته ويحب أن يعيش غيره حياة أفضل لم يكن متشوقا لهدم الشخصيات الكبيرة أو حاقداً وناقماً على الأغنياء مثل من سبقوه فى حكم مصر سواء من الملوك أو الرؤساء ولكن أخطأ الجميع فى فهم شخصيته سواء فى الداخل أو فى الخارج.. ومن هذا اليوم وهناك قانون شهرى أصدرناه فيما بيننا أن نتقابل صباح أحد الجمع من كل شهر.. السيارة السوداء التى تخص الرجل الأول فى مصر تعبر تأخذنى فى الموعد.. لأصلى معه ونأخذ يومنا معا يسألنى فى شىء وأرد عليه.. لا أحب كثيرا أن أتدخل فى سياسته..
ولكنى ألقى عليه بعض الاستفسارات التى تلح على مثل وضع مصر قبل الحرب وحالها بعد الحرب.. وما هو دور الولايات المتحدة فى الأمور بالضبط.. وكيف سيرد على العرب الذين يتهمونه بالخيانة.. وكيف سيداوى جراحنا مع سوريا.. وهل بالفعل يعتمد على السوفيت فى كل شىء كما فعل عبدالناصر.. وما هى الحلول التى يطرحها للأزمات الداخلية خاصة أن الجميع يحاولون التشكيك فى قدراته.. وأحيانا كنت آخذ بعض العبارات من على لسانه، وأضعها فى مؤلفاتى.. لقد كان السادات يمتلك صدراً رحباً، فيسمع النقد أو الرأى الآخر ويدرسه إلى أن يصل إلى القرار..
وذات مرة سألنى باهتمام شديد عن رأيى فى أحد الحوارات التى كان يصرح بها لمجلة مايو.. بصفة دورية.. وسألنى عن رأيى فى أحد الحوارات التى أدلى بها لجريدة قومية.. وفى الحقيقة كانت قد انتابتنى الدهشة فى هذا الأسبوع بالذات لأن الرئيس السادات كان قد أعطى ثقة عمياء لبعض الزملاء من الصحفيين.. إلا أن هؤلاء الصحفيين يبدو أن لهم رأيا آخر.. فقد شاهدت شيئا مخيفاً..
فى تلك الأيام كان الرئيس ينشر يوميات مصورة له منذ صباحه حتى منامه ويظهر وهو يحلق ذقنه ثم وهو يمدد قدميه على مخدة ريش نعام.. فى بهو منزله - وقت القيلولة - وفى نفس الوقت كانت هذه نفس مرحلة انتشار العشوائيات وظهور مظاهر جديدة على الشعب المصرى مثل سكان القبور وطوابير الجمعية وظهور أثرياء بثروات فاحشة، نتج عنهم بالتالى فقراء معدمون..
أما الشىء المخيف الذى شاهدته فهو أن السادة الذين وثق بهم رئيس الدولة قد قاموا بنشر صور الرئيس فى الصفحة الثالثة بعد أن أقنعوه أنها تأريخ لتفاصيل حياته الإلهية، التى يحتاجها الشعب المصرى. ونشروا فى الصفحة المقابلة سلسلة تحقيقات عن سكان القبور وعن الفقراء والفئة المعدومة التى ظهرت حديثا.. وبعد انتهاء حلقات صور الرئيس.. ملأوا نفس الصفحة بأخبار أبناء الرئيس وبنات الرئيس وحفلاتهم وزواجهم وأعياد ميلادهم ونزهاتهم وتفوقهم .. إلخ.
وهنا يمكن أن أقول إن من هؤلاء الزملاء الذين وضع فيهم السادات ثقته من لم يكونوا محل ثقة، وحاولوا أن يشوهوا صورته أمام شعبه وصارحته برأيى وما كان منه إلا أن أوقف هذه السلسلة من التحقيقات، ولكن بعد أن كانت اكتملت وعملت مفعولها.. وها أنتم ترون النتيجة التى بثها مثل هؤلاء فى ضعاف النفوس من الفقراء.. لتكون النتيجة الهائلة.. حادث المنصة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق