adv

Hazooma blog in other languages

مذكرات د : مصطفى محمود " الهجوم على تفسيرى لـ «القرآن» لم يرهبنى " ( الحلقة الثانية و العشرون )

■ ببساطة هل المفروض أن يقدم للعرب قديماً «وهم سكان البادية ورعاة الأغنام والإبل» ما يقدم الآن لعالم فضاء أو مهندس ذرة.. نفس المادة، وهى كتاب الله الحكيم، لكن الاختلاف هنا بين العصرين الوسيلة التى سيقدم عليها وبها.. بمعنى آخر على أى طبق أو بأى معنى؟ هل المعنى الذى تحدث به المفسرون القدامى أم أننا بحاجة إلى طريقة ووسيلة حديثة وجديدة ومعاصرة لمواجهة هذا العصر؟

■ هذا هو ملخص مشكلة التفسير العلمى للقرآن الذى أطلقته منذ أربعين عاما وكان بداية لانفجار مدرسة الإعجاز العلمى للقرآن، لأننى أيقنت أننا سنواجه طفرة علمية قادمة، وهى التى وصلنا أو بمعنى أدق وصل إليها العالم الآن، ومازالت ستتطور وتتحدث وكنت أخاطب نفسى هل سيستطيع أحفادى أن يتمسكوا بالقرآن فى تلك العصور.

مصطفى محمود

لم يتعمد الفارس المتمرد.. فيلسوف الشرق.. الدكتور مصطفى محمود إحداث الضجة الإعلامية حوله من أجل الظهور على الساحة، ليصبح من المشاهير كما قالوا عنه خلال الأزمة التى وقعت بعد صدور كتابه فى تفسير القرآن، ولم يكن مجرد مفكر تأخذه شطحاته إلى الهلاك وتدخل به سراديب تغوص فى ظلام الكفر والعلمانية كما قالوا عنه أيضا خلال تلك الفترة..

بل هو مفكر أراد الخير لأمته الإسلامية وأراد أن تتوقف لتتأمل الخطر الذى تقبل عليه، وعندما تحدثنا مع الدكتور مصطفى محمود حول تلك الأزمة حفزناه على استرجاعها بنفس الحماس الذى واجهها به فى وقتها، إذ قال: كثيرون هاجمونى، وأخرجوا كتبا عديدة لمواجهتى، ولكننى كنت أقول دائما أمام الجميع إن كل هذه الكتب التى خرجت ضدى لم تستطع أن تحرك شعرة فى رأسى، لأنه كما كان هناك معارضون كان هناك مؤيدون من كبار الأئمة والعلماء فى مصر والعالم الإسلامى،

وفى تلك الفترة كنت أواجه أسئلة سخيفة لا تنم إلا عن سلفية سائليها، وكان أول هذه الأسئلة هو: هل تمتلك مؤهلات المفسر العصرى للقرآن وأنت طبيب ومؤلف وكاتب صحفى ولم تدرس فى الأزهر الشريف من قبل؟ وكنت أجيب: رغم أننى لست من أصحاب العمائم ولم أدرس فى الأزهر فإننى أستطيع تفسير القرآن لأن مؤهلات المفسر العصرى للقرآن تقوم على أمرين أمتلكهما، حيث وهبنى الله تلك الملكات والعلوم.. أولهما أن يكون المفسر ملما بحاجة العصر..

وثانيهما أن يكون عالما علما وافيا ودقيقا بحقيقة القرآن.. أما حاجة العصر فالهداية.. فإن البشرية لم تكن يوما فى التيه كما هى اليوم.. وسمة هذا العصر هى القلق والحيرة والاضطراب.. هذا عصر الثورات »الثورة الثقافية والثورة الجنسية وثورة الشباب« وكلها دليل على القلق والحيرة والاضطراب.. فنواجه فى هذا العصر »الهيبز« وهم جماعات من الشباب من الجنسين يزيد عددهم كل يوم ويستطير شرهم كل يوم حتى عمًّ جميع الأقطار.. يقوم مجتمعهم على الرفض فهم قد وجدوا مجتمع الحضارة الغربية الآلية مجتمع إنتاج واستهلاك فقد فيه الإنسان المعاصر روحه وقيمته وحريته واستحال إلى آلة تنتج وتستهلك فرفضوه ورفضوا معه كل عرف ودين..

فنزعوا إلى صور من مجتمعات الغابة فهم يلبسون المرقعات ويسيرون حفاة ويرسلون شعورهم ويبيتون على الأرصفة وفى الطرقات ويستبيحون بينهم من العلائق الجنسية ما ظلت البشرية على صيانته حريصة خلال تاريخها الطويل.. هم يبحثون عن حريتهم وعن إنسانيتهم وعن فرديتهم فلا يجدون غير الضياع وغير القلق والاضطراب.. ثم توقف عن الكلام لأنه شاهد فى عيوننا الدهشة لإلمامه بكل هذه الظواهر وهو فى عزلته،

وبالتالى سألناه: هل تدرك هذه الظواهر وتهتم بها وهل سعيت لإيجاد الهداية لها من القرآن بتفسيره العصرى وما هى حقيقة القرآن؟ فقال بصوت هادئ وهو يطرد الزفير: القرآن هو العلم المطلق.. وعندما يأذن الله أن يسرع الإنسان فى معرفة المطلق نزله من الإطلاق إلى القيد، فكانت فى قمة القيد تلك الإشارة وفى قاعدة القيد وهى.. العبارة.. فأما العبارة فهى الكلمة العربية..

وأما الإشارة فهى حرف الهجاء العربى.. وأما حقيقة القرآن فهى فوق الإشارة وفوق العبارة.. »ثم توقف الدكتور مصطفى محمود عن الكلام وقال: لا تعتقدان أن هذا هو كلامى بل هو كلام الله« فقد قال تعالى فى ذلك »حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم« فقوله تعالى »حم« إشارة وقوله »والكتاب المبين« عبارة وقوله »إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون« عبارة تعطى العلة وراء تقييد المطلق وقوله »وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم« عبارة تحكى بقدر طاقة العبارة عن حقيقة القرآن..

وحقيقة القرآن لا تعرف عن طريق القراءة وإنما تعرف عن طريق الممارسة فى تقليد المعصوم عبادة وسلوكا وهو ما سمى فى أخريات الأيام بـ»التصوف«.. ثم قال مصطفى محمود: دائما كانوا يسألوننى.. هل تؤمن بالتصوف؟ وكنت أجيب دائما: أنا متصوف ولست صوفياً وهناك فرق كبير بين الاثنين.. والدليل على تصوفى كتابى »التفسير العصرى للقرآن« وكتب أخرى كثيرة.. ومهما يكن الأمر فإن البشرية اليوم لا تحتاج إلى تفسير القرآن فقط وإنما تحتاج إلى تأويله.. كما كان يوجه لى سؤال: إن هناك تشابها بين تفسيرك للقرآن والتفسير المسيحى للكتب المقدسة؟..

وكنت أجيب بأنه لا يوجد شبه بيننا على الإطلاق حيث كان الكتاب المقدس محتكرا فى القرون الوسطى لا يطلع عليه غير رجال الدين حتى كانت ثورة مارتن لوثر فى القرن السادس عشر فكسرت الاحتكار وأحدثت ثورة فى الكنيسة وأشاعت الكتاب بين عامة المسيحيين ثم جاءت بتفاسير ثورية متطرفة خرجت على التقليد الذى درجت عليه الكنيسة فى روما وأخرجت للناس المذهب البروتستانتى المعروف.. ومن يومئذ بدأت الثورة تستطير والفرق والمذاهب تظهر والرأى التقليدى فى الدين المسيحى يصبح مجالا للمناجزة، وسلطة البابا تتعرض للتحدى إلى يومنا هذا، حتى تعرضت الكنيسة على عهد البابا بولس السادس لأعنف ما تعرضت له فى تاريخها الطويل من الاختلاف..

وبوضع هذه الأحداث فى الاعتبار لا يوجد وجه للتشابه الذى كانوا يتحدثون عنه، ولكن التفسير المسيحى للكتب المقدسة، على حد تعبيرهم، يقارب بعضه باعتبار أن الفهم الدينى عند من يسمون أنفسهم رجال الدين عندما يتجمد ويتخلف وينشر الإرهاب الفكرى.. يحمى به جموده وتخلفه يدفع إلى ثورة طائشة فى الفكر والعمل.. ولذلك كان تفسيرى للقرآن يمثل ثورة على جمود الفكر الدينى وبداية لكسر احتكار من يسمون أنفسهم رجال الدين عندنا للدين، وإذا اعتبر أحد أن هناك تشابها فسيكون هذا هو التشابه..

وهنا وجدنا أننا لابد أن نتوقف معه عند أكثر هجوم تعرض له فى تلك الفترة، وهو هجوم بنت الشاطئ حيث قال: كانت أعنف المعارك حول الإعجاز العلمى للقرآن المعركة التى أعلنتها الدكتورة بنت الشاطئ ضدى، وكانت تنشر مقالاتها بشكل منتظم فى »أهرام الجمعة« وكانت مقالاتها فى منتهى العنف وكأنها كانت تُكنُّ الكراهية للعلم،

وهنا أتذكر عباراتها الحادة حيث كتبت فى البداية عن كيفية التعامل مع القرآن فتقول: »لابد أن يكون فهمنا لكتاب الإسلام متحرراً من كل الشوائب المقحمة والبدع المدسوسة بأن نلتزم فى تفسيره بضوابط منهجية تصون حرمة كلماته فنرفض بها الزيف والباطل ونتقى أخذة السحر وفتنة التمويه وسكرة التخدير«، ثم تنطلق وكأننى أصبحت عدوا للإسلام ولست حريصا عليه فتقول وتحذر من أن.. »الكلام عن التفسير العصرى للقرآن يبدو فى ظاهره منطقياً ومعقولاً يلقى إليه الناس أسماعهم ويبلغ منهم غاية الإقناع دون أن يلتفتوا إلى مزالقه الخطرة التى تمسخ العقيدة والعقل معاً وتختلط فيها المفاهيم وتتشابه السبل فتفضى إلى ضلال بعيد إلا أن نعتصم بإيماننا وعقولنا لنميز هذا الخلط الماسخ لحرمة الدين المهين لمنطق العصر وكرامة العلم..

« وكنت أحيانا أرد بالطبع على بنت الشاطئ متعجباً ومتسائلاً: »هو انتى زعلانة من إيه؟.. هو فيه حد يزعل من إن كتاب القرآن الكريم يحتوى على نبوءات وتفسيرات علمية«.. ولكنها كانت ترد بشكل عنيف وشرس فتقول: »الدعوة إلى فهم القرآن بتفسير عصرى علمى على غير ما بينه نبى الإسلام تسوق إلى الإقناع بالفكرة السامة التى تنأى بأبناء العصر عن معجزة نبى أمى بعث فى قوم أميين فى عصر كان يركب الناقة والجمل لا المرسيدس والرولز رويس والبوينج وأبوللو.. ويستضىء بالحطب لا بالكهرباء والنيون.. ويستقى من نبع زمزم ومياه الآبار والأمطار لا من مصفاة الترشيح ومياه فيشى ومرطبات الكولا..

ونتورط من هذا إلى المزلق الخطر يتسلل إلى عقول أبناء هذا الزمان وضمائرهم فيرسخ فيها أن القرآن إذا لم يقدم لهم علوم الطب والتشريح والرياضيات والفلك والفارماكوبيا وأسرار البيولوجيا والإلكترون والذرة فليس صالحاً لزماننا ولا جديراً بأن تستسيغه عقليتنا العلمية ويقبله منطقنا العصرى«.. هكذا كانت تتكلم بنت الشاطئ فى هجومها ضدى وكانت تقول أيضا: »الذى لا أفهمه وما ينبغى لى أن أفهمه هو أن يجرؤ مفسرون عصريون على أن يخرجوا على الناس بتفاسير قرآنية فيها طب وصيدلة وطبيعة وكيمياء وجغرافيا وهندسة وفلك وزراعة وحيوان وحشرات وجيولوجيا وبيولوجيا وفسيولوجيا.. إلخ،

إما أن أتخلى عن منطق عصرى وكرامة عقلى فآخذ فى المجال العلمى بضاعة ألف صنف معروضة فى الأسواق.. وإما أن أتخلى عن كبرياء علمى وعزة أصالتى فأعيش فى عصر العلم بمنطق قريتى حين يفد عليها الباعة الجوالون بألف صنف يروج لها ضجيج إعلانى بالطبل والزمر عن كل شىء لكل شىء أو بتاع كله فى فكاهتنا الشعبية الساخرة بالادعاء«.. فكان تشبيهها لدعاة الإعجاز العلمى بالحواة تشبيهاً خاطئا وحاداً وأخطأت فى ردها على إعجاز بيت العنكبوت،

وهو عملية اكتشاف تأنيث القرآن للعنكبوت فهذا إعجاز علمى فى قوله تعالى »مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً« وهذا يعد من الإعجاز العلمى لأن العلم كشف مؤخراً أن أنثى العنكبوت هى التى تنسج البيت وليس الذكر وهى حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن ولكن بنت الشاطئ أخطأت حين قالت: »إن مصطفى محمود وقع فى خطأ لا يقع فيه المبتدئون من طلاب اللغة العربية،

فالقرآن فى هذه الآية يجرى على لغة العرب الذين أنثوا لفظ العنكبوت من قديم جاهليتهم الوثنية كما أنثوا مفرد النمل والنحل والدود فلم يقولوا فى الواحد منها إلا نملة ونحلة ودودة وهو تأنيث لغوى لا علاقة له بالتأنيث البيولوجى كما توهم المفسر العصرى، فأى عربى وثنى من أجلاف البادية كان ينطقها هكذا فأين الإعجاز العلمى فى هذا الكلام؟«.. بكل بساطة كانت هذه هى معركة بنت الشاطئ معى »رغم أنها أول من شجعنى على نشر كتابى وهى التى اختارت الاسم له كما قلت من قبل« ولقد لجأت إلى مقالاتها لحل معركة داخلية ومشكلة شخصية فكرية كادت تعصف بى كان محورها ما أؤمن به من إعجاز علمى، ولكن رغم كل ما واجهته من هجوم ونقد فإن ما توقعته وتوصلت إليه من سنوات يتحقق الآن على أرض الواقع.

0 التعليقات:

إرسال تعليق