■ العطاء فى هذه الأيام أصبح جنوناً
■ أفعال الخير والعطاء لوجه الله أصبحت مصيبة تطارد مرتكبيها.
■ أصبحنا نلعن العطاء بين الشرفاء مقابل نظرة رضا من السياسيين والأثرياء.
■ بالفعل لا أحد يستطيع أن ينكر أننا فى زمن التكنولوجيا الصماء أصبحنا أغبياء.
■ نحن نأكل الجوع ونشرب الظمأ وندخر الحقد ونحصد الندم ونموت جهلاً كما ولدنا. نحن لا نعرف من أين وإلى أين لا نعرف كيف ولماذا كنا وكيف أصبحنا أليس هذا هو الجنون؟
مصطفى محمود
أزمة كل الحركات الاجتماعية كجماعات والمثقفين المصريين والعرب كأشخاص، أن نضالهم كله يتركز فى شعارات.. عناوين.. البارز فيهم من يحول هذه الشعارات إلى كلمات وكتابات تولد على صفحات الصحف وتموت عليها.. قليلا أو نادرا من يكثف مجهوده ليحوله لعمل واقعى.. من الممكن أن نجد رجل أعمال كرّس وقته ومجهوده هو ومن حوله لصالح البيزنس الخاص به، أو فنانا استطاع توجيه أدائه هو وفرقته ومن يعملون معه لإخراج تحف فنية يحفر بها اسمه على حائط الفن.. لكننا لم نجد أبدا – فى حياتنا على الأقل – من يوجه جهوده من أجلهم.. من أجل فقراء هذا الوطن.. فقراء هذه الأرض.. من أجل اليتامى.. من أجل الفلاحين.. من أجل الغلابة.. لم نر من يفكر فى محاربة الإرهاب بالتعليم.. ويحارب البلطجة بإطعام الفقير وتربيته.. نعم لم نر.. إلا العالم الكبير مصطفى محمود.. وفى هذا الصدد نجده يقول:
منذ النشأة كانت لى أحلامى بخصوص من حولى، عندما نشأت لم أكن من الأثرياء، ولم أكن من الفقراء، كنت من المستورين (الطبقة المتوسطة التى اختفت حاليا).. ولكننى كنت دائم الانشغال بالفقراء.. اقتنعت بأن الفقر والجهل والظروف السيئة هى سبب تأخر أمتنا، بل هى منبع الإرهاب، فإذا أردنا أن نصعد بمعدل نمو دولتنا مثل الدول المحترمة، وإذا أردنا أن نقطع جذور الإرهاب فعلينا بمحاربة أسبابه.. وهذا لن يكون فقط بالتنظير أو بتأليف الكتب أو بالصراخ على المنابر السياسية.. العلاج يكون بأن يبدأ كل واحد بنفسه.. بيده.. لا أقصد هنا ألا ينتظر النظام «بواقى وفضلات» الدول الأخرى المسماة الإعانات لأنك ستكون «بتنادى فى جدار أصم»، بل أقصد ألا تنتظر شيئا أساسا من النظام.. عايز تعمل خير لبلدك وأهلك وأهلها.. الخير بيتنفذ- بقول يتنفذ- مش بيقف عند مجرد النية.. فالحل يكمن فينا وبداخلنا.
أما عن بداية الخطوات العملية عند الدكتور مصطفى محمود فقال:هل تتذكرون الحلم القديم الذى يسرده الناس الطيبون عن أسطورة الرجل الطيب الذى نشأ فى الريف وكان رجلا قويا صاحب عزيمة وطموح ودائما قلبه يرق لضعفاء قريته، فأقام مشروعا وشغل فيه فقراء القرية وكان يحجز جزءاً من أرباح هذا المشروع لينفق على أولاد عماله الفقراء.. ويوفر لهم علاجا وتعليما وملابس.. إذن بعد أن اهتم بتوفير مصدر للرزق يهتم بالتعليم والرعايه الصحية، وهو ما رفع من مستوى هؤلاء الفقراء وزادت احتياجاتهم فأصبحوا يشترون منتجات مصانع الرجل الطيب فراجت سلعته أكثر فدخل القرية المجاورة وأقام فيها فروعا أخرى معتمدا على فقرائها ورافعا إياهم من محنتهم..
وظل هكذا حتى قضى تقريبا على البطالة والفقر فى بلده.. لأنه لم يكن يفكر بالأساس فى جنى الأرباح فقط، بل كان يفكر فى فقراء بلدته، فيكون نتيجة عمله الصادق أن تتسع تجارته وتتعاظم أرباحه، فيقسم هذا الربح بينه وبين الفقراء فى مكان آخر، وهو ما يضاعف من أرباحه مائة مرة.. هذه الأسطورة المتداولة بين البسطاء كثيرا ما شغلتنى منذ الصغر، وكنت أفكر فيها باستمرار وأنقضها أحيانا، ولكننى وجدت نفسى أؤيدها بكل ما أوتيت من قوة.. حتى جاء منتصف السبعينيات.. وفكرت آلاف المرات فى كيفية تحقيق هذه الأسطورة بالفعل.. لكن الحقيقة أننى فكرت بالعقل.. التفكير بالعقل مش بالعواطف لو أردنا أن نحقق شيئا، وصممنا عليه سيتحقق..
هكذا كان حلمى أن أؤسس شيئا عمليا أستطيع من خلاله أن أمد يد العون.. أن أساهم فى حل مشاكل المحتاجين من المحيطين بى.. فى عام ١٩٧٦ بالفعل بدأت تنفيذ الحلم وحصلت من وزارة الأوقاف على ترخيص ببناء مسجد، وحصلت على دعم العديد من الأشخاص والجهات لإتمام بناء المسجد، وبدأت التفكير فى إنشاء مركز خدمى وعلاجى للبسطاء، فكرت أولا فى إنشائه فى أرياف الجيزة، ولكن بعد إقامة المسجد فكرت فى إنشاء المجمع بجوار المسجد..
فى البداية فكرت فى دور الكنيسة الخدمى الذى تقوم به لرعاية شعبها، وقلت فى نفسى لماذا لا يكون دور المسجد له نفس الخصائص، ويعطى لرواده من الفقراء والمحتاجين نفس المزايا.. بالفعل كان الحلم يراودنى، ومعى أخى الكبير مختار، وكان يساندنى معنويا ثلاثة أصدقاء آخرين استطعت أن أجندهم، واقتنعوا بما اقتنعت به من العمل لخدمة الإنسانية المشردة فى الشوارع والحوارى والأزقة.. وعندما وضعنا كل ما نمتلك معاً أكملوا ٥٠٠ جنيه وهو المبلغ الذى لا يسمن ولا يغنى.. ولكنى كنت أعمل عملا لله..
وعندما أعاننى الله قمت بزيادة رأس المال المؤسس إلى ستة آلاف وكان مبلغا كبيرا فى ذلك الوقت.. وهو ما ساعدنى على إنشاء المستشفى بالفعل.. بدأته بعيادة للباطنة، ثم عيادة للرمد ومعمل تحاليل، وهكذا كانت نواة المستشفى عدة عيادات صغيرة، حجم كل عيادة غرفة واحدة.. هل تعلم كم تبلغ القيمة الاسمية لهذه الأصول الآن.. أكثر من ١٥٠ مليون جنيه كلها لله، لا يوجد منها مليم واحد فى حساب خاص..
وفى منتصف الثمانينيات تقريبا كان الصديق الدكتور أحمد عادل نور الدين، وهو الآن من كبار إخصائيى التجميل فى الشرق الأوسط، أنهى رسالته وأصبح مستعدا للعمل الرسمى معنا، فأقمنا معا عيادة لجراحات التجميل للبسطاء، ولكم أن تتخيلوا مدى النجاح الذى حققه ذلك الفرع، وقد وجد الفقراء ما كانوا يتصورونه حكرا على الأغنياء متاحا لهم.. فكم فقيراً يعوقه تشوه ما بينه وبين الحياة الطبيعية، وهذا كان دورنا.. هنا أريد أن أتكلم عن هذه الفترة.. هل هناك ما يميزها؟
نعم هذه كانت أيام البرنامج.. فكنت أتبع نفس أسلوب الأداء والإدارة فى الاثنين.. وكنت أتبع نفس الأسلوب الذى اتبعته فى عملى سواء فى البرنامج أو أى مجال آخر.. كنت وأنا أدور حول العالم فى سفرياتى المتتالية، أبحث عن أحدث الأجهزة وأشتريها وأحضرها معى إلى المستشفى، فمثلا أحضرنا جهاز الأشعة المقطعية عندنا قبل أن يسمع به أحد، وأجهزة الرنين المغناطيسى، وكذلك أجهزة رسم المخ والعضلات، رغم أن الكشف كان ومازال بأرخص الأسعار، وذلك لأن الربح لم يكن الهدف من وراء هذا المشروع بل كان هناك هدف سام- الكشف ظل إلى فترة كبيرة قيمته جنيه واحد والآن بعد أن زادت قيمته لا يتجاوز أعلى كشف ٥ جنيهات.
كانت المشكله التى كثيرا ما تواجهنى هى الأطباء أنفسهم.. كيف أسهل لهم العقبات وهم يحصلون على ربع قيمة الكشف فقط إضافة إلى طموح الغالبية منهم فى تحقيق أهداف شخصية.. وكان هذا دورى.. المشروع فى نشأته يتلخص فى أنه سعى منا إلى تغيير الأوضاع بأى قدر.. أن نمد يد العون للآخر.. فكنت أصطدم بطموح طبيب من الموجودين.. وكان لابد من عدم تقييده بل دفعه لتنفيذ أجندته الخاصة.. لا أخيره بين طموحه الخاص وأهداف المشروع، بل كنت أحتويه وأدعمه فيسير فى أهدافه الخاصة ويعطينى أنا والمشروع كل ما نحتاجه من طاقته وزيادة..
فإذا طلب منى أحد الأطباء جهازاً ظهر حديثا، أحضره معى من أول رحلة لى فى الخارج، وكنت أساعد من يريد أن يكمل رسالة دكتوراه خاصة به.. فأصبح الأطباء يكبرون، مع اتساع شهرة وأعمال المؤسسة، وكنت أناقش كل طبيب على حدة، بالمرور عليه فى مكان عمله أو أطلبه عندى فى الاستراحة حتى نتكلم، وهو ما ساعد معظمهم على أن يصبحوا من كبار الأساتذة ويترقوا.. وها هم جميعا يشغلون مناصب.. مثل عمداء الكليات المختلفة وفى وزارة الصحة خصوصا بعد أن دعمناهم بحضور المؤتمرات العلمية فى الخارج.. إضافة إلى توفير أحدث الأجهزة فى العالم لهم.
وفى هذا السياق يقول الدكتور مصطفى وهو يبتسم لكوميديا الموقف: كانت هناك فجوة زمنية لصالحنا بيننا وبين مستشفيات الدولة فى تقدم الأجهزة والمعامل والنظام المتبع فيما يقارب الخمسين عاما، وكنا أحدث من المستشفيات الخاصة أيضا.. ومع ذلك كنا نعمل بلا ربح أو أهداف شخصية، وهذا كان يدفع أصحاب تلك المستشفيات، التى كان يطلق عليها لقب المستشفيات الاستثمارية، إلى الاتصال بى ويقولون لى «حرام عليك يا دكتور بيتنا هيتخرب» وكنت أضحك من موقفهم، الذى يعد بجاحة لاستغلال الناس ومحاولة لإقناعى بأن أجعل العلاج بأجر يساوى أجورهم الاستثمارية.. لقد أصبح المجمع يستقبل الآن أكثر من ٤٥٠٠ مريض كل يوم، ونجرى أكثر من ستين عملية يوميا- ولا قصر العينى- خصوصا بعد أن توسعنا وأقمنا فروعا فى أماكن أخرى.
لكن.. هل مؤسسة مصطفى محمود، التى أطلق عليها الدكتور جمعية ومسجد محمود الخيرية، يتوقف جهودها عند الخدمات الطبية.. الحقيقة أن هذه هى معلوماتنا عن الجمعية، لكننا فوجئنا بعالمنا الأكبر يشير لأدوار أخرى لمؤسسته، التى اتسع نشاطها ويتسع باستمرار فى مجالات مختلفة.. فمن توفير الملابس لعشرات الآلاف من الأسر المصرية، إلى توفير مصدر رزق دائم وثابت لمعدومى الدخل.. بل وتوفير طعام للمنكوبين..
وعندما أبدينا ذهولنا قال: الجمعية الآن لها دور اجتماعى كبير.. لكن ذهولكم هذا لأننا لا نروج لهذا الخير الذى سببه الله لنا ولكل من ينتفع من المؤسسة بأسلوب دعائى.. ربنا مبارك لأهل الخير والعملية ماشيه.. لكن ليس معنى ذلك أن نشاط الجمعية مجهولة لأن نتائج «جمعية محمود» موجودة فى كل الأقاليم، خصوصا المناطق التى لا تصل إليها يد الحكومة، مثل الصعيد وسينا والواحات.. ولجنة النشاط والخدمات الاجتماعية بدأت دورها فى بداية التسعينيات.. وأول وأبرز هذه الأنشطة قبل التسعينيات بعشرين عاما كان «مائدة الرحمن» المشهورة والتى تقيمها الجمعية فى رمضان.. فى هذه الأيام كانت مائدة الرحمن الشهيرة الأخرى فى السيدة زينب، فكان مشهد مائدة الرحمن فى المهندسين مشهداً رهيباً- مشهد عجبة- ولكن فى أول التسعينيات بدأت ما يسمى رحلتى الشتاء والصيف، وهما أمران مهمان جدا فى حياتى.
ولكن قبل الحديث عن رحلات الشتاء والصيف، قال الدكتور مصطفى محمود: عقلية النظام المصرى لا تؤمن أبدا بأن هناك من يمكنه أن يتصدى للفقر والإرهاب دون مقابل، فشكوا أن الجمعية والمسجد وما يلحق بهما من فروع تم تأسيسها بغرض تنشئة أجيال بأفكار أمنية أو أفكار دينية شاذة بتمويل ما.. وبالفعل وضعت المؤسسة بالكامل تحت المراقبة لأعوام.. وعشت ومن حولى تحت الرقابة الأمنية، حتى تأكد النظام من أن هدفى هو المعلن، وهو المساهمة فى رفع المعاناة عن أبناء وطنى.. والحمد لله رفعتها بالفعل، لأنى أؤمن بأن العمل والابتكار ليس بالصياح والشعارات والتوقف عند حد الكتابات..
وفى الاتحاد السوفيتى حاولت بعض الجهات هناك فى السبعينيات تمويل برنامج لتنشئة جيل من المقاتلين.. من طراز خاص.. على المستوى الأمنى أو الفكرى، لكن التجربة زرعت فى هذه المجموعة أفكارا شاذة لدرجة أن الجيل انهار أو تطرف.. ولأن النظام عندنا عبقرى فى كل شىء إلا الصواب، فقد خرجت تقارير تفيد بأننى أربى اليتامى عندى فى الجمعية.. وسألت التقارير: بربيهم ليه؟ هايكسب ايه من وراهم..
أكيد الموضوع فيه «إنّه».. العقلية الأمنية المستهترة فى كل صواب، ركزت بس معايا وركبت أجهزة تنصت على تليفونات الجمعية، وزرعوا عيونا وعشنا شهورا وسنوات طويلة فى ارتباك.. ولكننا لم نتذمّر إحنا مابنعملشى حاجه عشانهم ولا منتظرين أجر عليها يبقى ربنا هايحمى حاجته دى.. وزاد الطين بلة أنه فى بعض الأحيان كان يخطب فى المسجد بعض الشيوخ المغضوب عليهم، مثل الشيخ كشك.. مما دفع الجهات إياها لأن تظن فينا الظن إياه.. لكننى كنت مصرَّاً على تقديم حياتى للبسطاء والفقراء.
هل اكتفيت؟ سؤال ألقى بنفسه داخلى.. مشغول أنا فى برنامج «العلم والإيمان».. النجاح الهائل الذى وصلت إليه ألقى بداخلى مسؤولية مهمة حول إعداده والخروج به إلى الشعب العربى بصورة ملائمة كما ينتظرونه.. لكن هذا السؤال الملح حول ما إذا كان ما أقمناه بعون الخالق يكفى.. وصل عدد من تستقبلهم الجمعية إلى ٥ آلاف مريض يوميا، لكن هل اكتفيت.. أشعر أحيانا بأن هناك أصوات تنادى علىَّ من أماكن لا أعرفها: لا يوجد أفقر من فقراء الأماكن المقفرة فى مصر.. لا يوجد أكثر احتياجا منهم.. سيناء.. والواحات.. والصعيد.. وريف مصر.. فى الأصل كدت أنشئ الجمعية فى أرياف الجيزة حتى تتوجه بخدماتها إلى المحتاج الحقيقى، لكن الظروف جعلت من منزلى مقراً للجمعية فى ميدان مصطفى محمود.. لذلك كان هو الوقت اللازم للخروج برحلات الشتاء والصيف.
خرجت أنا وأطباء المجمع بهدف الوصول بخدماتنا إلى القاهرة ومعظم المحافظات المحيطة بها، ولفت انتباهى أن المحافظات البعيدة، مثل الصعيد ومطروح وسيناء، لا تصلها خدماتنا، على الرغم من تفاقم الأوضاع بكثير فى هذه المحافظات بالذات، فقررنا أن نخرج بقوافل إلى هذه المناطق، وبالفعل كنا نذهب بقافلة فى الصيف وأخرى فى الشتاء، كل قافلة منهما تتوجه إلى مكان ما، وعلى رأس هذه الأماكن «السلوم وسوهاج وقنا ومطروح والخارجة وأسوان».. وكنا نستغل فترة هذه القافلة ونهتم بأهل هذه المناطق فى أكثر من مجال وأكثر من نشاط، فكرى أو دينى، ووصل عدد هذه القوافل إلى ١٣ قافلة.
أما كيف غارت الحكومة من مشروعات الدكتور مصطفى؟ وكيف حاولت منافسته؟ وكيف خسرت بسبب التفاف الناس حوله؟ وما هى علاقة الدكتور مصطفى بالمعتقلين السياسيين فى سجون مصر؟ فهو موضوع الحلقة المقبلة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق