adv

Hazooma blog in other languages

مذكرات د : مصطفى محمود قبل وفاته Mustafa Mahmoud



مذكرات د : مصطفى محمود



الطبيب المفكر العبقرى وغيرها من الألقاب لا أتذكرها
هذه المذكرات كتبها قبل وفاته حيث توفى صباح السبت 31 أكتوبر عام 2009
عن عمر يناهز 88 عاما





1 - الحلقة الأولى


2- الحلقة الثانية الهروب من الطفولة


3 - الحلقة الثالثة حكايتى مع الموت


4 - الحلقة الرابعة رأيت ملك الموت


5 - الحلقة الخامسة الصدام مع عبد الناصر


6 - الحلقة السادسة محاكمة الناصرية


7 - الحلقة السابعة وثيقة التكفير


8 - الحلقة الثامنة نساء فى حياتى


9 - الحلقة التاسعة زواجى من ملكة جمال مصر


10 - الحلقة العاشرة الزوجة الثانية


11 - الحلقة الحادية عشر رحلاتى .. سواح فى دنيا الله


12 - الحلقة الثانية عشر رحلاتى بين أقصى الحضارة و البداوة


13 - الحلقة الثالثة عشر عشت بين سكان الدنكا


14 - الحلقة الرابعة عشر أيامى مع السادات


15 - الحلقة الخامسة عشر أنا و السادات .. و الجماعات الإسلامية


16 - الحلقة السادسة عشر
قول أخير فى السادات : بطل حقيقى وزعيم شجاع

17 - الحلقة السابعة عشر حكايتى مع الأعمال الخيرية

18 - الحلقة الثامنة عشر الجمعية الخيرية كانت تجسيدا لأحلامى و نظرياتى الإقتصادية


19 - الحلقة التاسعة عشر إلحادى كان صحيا


20 - الحلقة العشرون كفرونى للمرة الثانية عندما أصدرت التقسير العصرى للقرآن


21 - الحلقة الحادية و العشرون أزمة القرآن و إنتقادى لكتَاب مصر


22 - الحلقة الثانية و العشرون الهجوم على تفسيرى للقرآن لم يرهبنى

23 - الحلقة الثالثة و العشرون أيام التكفير الثالث فى أزمة «الشفاعة»

24- الحلقة الرابعة و العشرون حكايتى مع التصوف و المتصوفين

25- الحلقة الخامسة و العشرون ( الأخيرة ) الشائعات تطاردنى دائما



Hazooma Blog
Hazooma.Blogspot.com


شكر خاص لجريدة المصرى اليوم التى قامت بنشر هذه المذكرات
و قد كتبها
محمد الساعى - السيد الحرانى

مذكرات د : مصطفى محمود " الهجوم على تفسيرى لـ «القرآن» لم يرهبنى " ( الحلقة الثانية و العشرون )

■ ببساطة هل المفروض أن يقدم للعرب قديماً «وهم سكان البادية ورعاة الأغنام والإبل» ما يقدم الآن لعالم فضاء أو مهندس ذرة.. نفس المادة، وهى كتاب الله الحكيم، لكن الاختلاف هنا بين العصرين الوسيلة التى سيقدم عليها وبها.. بمعنى آخر على أى طبق أو بأى معنى؟ هل المعنى الذى تحدث به المفسرون القدامى أم أننا بحاجة إلى طريقة ووسيلة حديثة وجديدة ومعاصرة لمواجهة هذا العصر؟

■ هذا هو ملخص مشكلة التفسير العلمى للقرآن الذى أطلقته منذ أربعين عاما وكان بداية لانفجار مدرسة الإعجاز العلمى للقرآن، لأننى أيقنت أننا سنواجه طفرة علمية قادمة، وهى التى وصلنا أو بمعنى أدق وصل إليها العالم الآن، ومازالت ستتطور وتتحدث وكنت أخاطب نفسى هل سيستطيع أحفادى أن يتمسكوا بالقرآن فى تلك العصور.

مصطفى محمود

لم يتعمد الفارس المتمرد.. فيلسوف الشرق.. الدكتور مصطفى محمود إحداث الضجة الإعلامية حوله من أجل الظهور على الساحة، ليصبح من المشاهير كما قالوا عنه خلال الأزمة التى وقعت بعد صدور كتابه فى تفسير القرآن، ولم يكن مجرد مفكر تأخذه شطحاته إلى الهلاك وتدخل به سراديب تغوص فى ظلام الكفر والعلمانية كما قالوا عنه أيضا خلال تلك الفترة..

بل هو مفكر أراد الخير لأمته الإسلامية وأراد أن تتوقف لتتأمل الخطر الذى تقبل عليه، وعندما تحدثنا مع الدكتور مصطفى محمود حول تلك الأزمة حفزناه على استرجاعها بنفس الحماس الذى واجهها به فى وقتها، إذ قال: كثيرون هاجمونى، وأخرجوا كتبا عديدة لمواجهتى، ولكننى كنت أقول دائما أمام الجميع إن كل هذه الكتب التى خرجت ضدى لم تستطع أن تحرك شعرة فى رأسى، لأنه كما كان هناك معارضون كان هناك مؤيدون من كبار الأئمة والعلماء فى مصر والعالم الإسلامى،

وفى تلك الفترة كنت أواجه أسئلة سخيفة لا تنم إلا عن سلفية سائليها، وكان أول هذه الأسئلة هو: هل تمتلك مؤهلات المفسر العصرى للقرآن وأنت طبيب ومؤلف وكاتب صحفى ولم تدرس فى الأزهر الشريف من قبل؟ وكنت أجيب: رغم أننى لست من أصحاب العمائم ولم أدرس فى الأزهر فإننى أستطيع تفسير القرآن لأن مؤهلات المفسر العصرى للقرآن تقوم على أمرين أمتلكهما، حيث وهبنى الله تلك الملكات والعلوم.. أولهما أن يكون المفسر ملما بحاجة العصر..

وثانيهما أن يكون عالما علما وافيا ودقيقا بحقيقة القرآن.. أما حاجة العصر فالهداية.. فإن البشرية لم تكن يوما فى التيه كما هى اليوم.. وسمة هذا العصر هى القلق والحيرة والاضطراب.. هذا عصر الثورات »الثورة الثقافية والثورة الجنسية وثورة الشباب« وكلها دليل على القلق والحيرة والاضطراب.. فنواجه فى هذا العصر »الهيبز« وهم جماعات من الشباب من الجنسين يزيد عددهم كل يوم ويستطير شرهم كل يوم حتى عمًّ جميع الأقطار.. يقوم مجتمعهم على الرفض فهم قد وجدوا مجتمع الحضارة الغربية الآلية مجتمع إنتاج واستهلاك فقد فيه الإنسان المعاصر روحه وقيمته وحريته واستحال إلى آلة تنتج وتستهلك فرفضوه ورفضوا معه كل عرف ودين..

فنزعوا إلى صور من مجتمعات الغابة فهم يلبسون المرقعات ويسيرون حفاة ويرسلون شعورهم ويبيتون على الأرصفة وفى الطرقات ويستبيحون بينهم من العلائق الجنسية ما ظلت البشرية على صيانته حريصة خلال تاريخها الطويل.. هم يبحثون عن حريتهم وعن إنسانيتهم وعن فرديتهم فلا يجدون غير الضياع وغير القلق والاضطراب.. ثم توقف عن الكلام لأنه شاهد فى عيوننا الدهشة لإلمامه بكل هذه الظواهر وهو فى عزلته،

وبالتالى سألناه: هل تدرك هذه الظواهر وتهتم بها وهل سعيت لإيجاد الهداية لها من القرآن بتفسيره العصرى وما هى حقيقة القرآن؟ فقال بصوت هادئ وهو يطرد الزفير: القرآن هو العلم المطلق.. وعندما يأذن الله أن يسرع الإنسان فى معرفة المطلق نزله من الإطلاق إلى القيد، فكانت فى قمة القيد تلك الإشارة وفى قاعدة القيد وهى.. العبارة.. فأما العبارة فهى الكلمة العربية..

وأما الإشارة فهى حرف الهجاء العربى.. وأما حقيقة القرآن فهى فوق الإشارة وفوق العبارة.. »ثم توقف الدكتور مصطفى محمود عن الكلام وقال: لا تعتقدان أن هذا هو كلامى بل هو كلام الله« فقد قال تعالى فى ذلك »حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم« فقوله تعالى »حم« إشارة وقوله »والكتاب المبين« عبارة وقوله »إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون« عبارة تعطى العلة وراء تقييد المطلق وقوله »وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم« عبارة تحكى بقدر طاقة العبارة عن حقيقة القرآن..

وحقيقة القرآن لا تعرف عن طريق القراءة وإنما تعرف عن طريق الممارسة فى تقليد المعصوم عبادة وسلوكا وهو ما سمى فى أخريات الأيام بـ»التصوف«.. ثم قال مصطفى محمود: دائما كانوا يسألوننى.. هل تؤمن بالتصوف؟ وكنت أجيب دائما: أنا متصوف ولست صوفياً وهناك فرق كبير بين الاثنين.. والدليل على تصوفى كتابى »التفسير العصرى للقرآن« وكتب أخرى كثيرة.. ومهما يكن الأمر فإن البشرية اليوم لا تحتاج إلى تفسير القرآن فقط وإنما تحتاج إلى تأويله.. كما كان يوجه لى سؤال: إن هناك تشابها بين تفسيرك للقرآن والتفسير المسيحى للكتب المقدسة؟..

وكنت أجيب بأنه لا يوجد شبه بيننا على الإطلاق حيث كان الكتاب المقدس محتكرا فى القرون الوسطى لا يطلع عليه غير رجال الدين حتى كانت ثورة مارتن لوثر فى القرن السادس عشر فكسرت الاحتكار وأحدثت ثورة فى الكنيسة وأشاعت الكتاب بين عامة المسيحيين ثم جاءت بتفاسير ثورية متطرفة خرجت على التقليد الذى درجت عليه الكنيسة فى روما وأخرجت للناس المذهب البروتستانتى المعروف.. ومن يومئذ بدأت الثورة تستطير والفرق والمذاهب تظهر والرأى التقليدى فى الدين المسيحى يصبح مجالا للمناجزة، وسلطة البابا تتعرض للتحدى إلى يومنا هذا، حتى تعرضت الكنيسة على عهد البابا بولس السادس لأعنف ما تعرضت له فى تاريخها الطويل من الاختلاف..

وبوضع هذه الأحداث فى الاعتبار لا يوجد وجه للتشابه الذى كانوا يتحدثون عنه، ولكن التفسير المسيحى للكتب المقدسة، على حد تعبيرهم، يقارب بعضه باعتبار أن الفهم الدينى عند من يسمون أنفسهم رجال الدين عندما يتجمد ويتخلف وينشر الإرهاب الفكرى.. يحمى به جموده وتخلفه يدفع إلى ثورة طائشة فى الفكر والعمل.. ولذلك كان تفسيرى للقرآن يمثل ثورة على جمود الفكر الدينى وبداية لكسر احتكار من يسمون أنفسهم رجال الدين عندنا للدين، وإذا اعتبر أحد أن هناك تشابها فسيكون هذا هو التشابه..

وهنا وجدنا أننا لابد أن نتوقف معه عند أكثر هجوم تعرض له فى تلك الفترة، وهو هجوم بنت الشاطئ حيث قال: كانت أعنف المعارك حول الإعجاز العلمى للقرآن المعركة التى أعلنتها الدكتورة بنت الشاطئ ضدى، وكانت تنشر مقالاتها بشكل منتظم فى »أهرام الجمعة« وكانت مقالاتها فى منتهى العنف وكأنها كانت تُكنُّ الكراهية للعلم،

وهنا أتذكر عباراتها الحادة حيث كتبت فى البداية عن كيفية التعامل مع القرآن فتقول: »لابد أن يكون فهمنا لكتاب الإسلام متحرراً من كل الشوائب المقحمة والبدع المدسوسة بأن نلتزم فى تفسيره بضوابط منهجية تصون حرمة كلماته فنرفض بها الزيف والباطل ونتقى أخذة السحر وفتنة التمويه وسكرة التخدير«، ثم تنطلق وكأننى أصبحت عدوا للإسلام ولست حريصا عليه فتقول وتحذر من أن.. »الكلام عن التفسير العصرى للقرآن يبدو فى ظاهره منطقياً ومعقولاً يلقى إليه الناس أسماعهم ويبلغ منهم غاية الإقناع دون أن يلتفتوا إلى مزالقه الخطرة التى تمسخ العقيدة والعقل معاً وتختلط فيها المفاهيم وتتشابه السبل فتفضى إلى ضلال بعيد إلا أن نعتصم بإيماننا وعقولنا لنميز هذا الخلط الماسخ لحرمة الدين المهين لمنطق العصر وكرامة العلم..

« وكنت أحيانا أرد بالطبع على بنت الشاطئ متعجباً ومتسائلاً: »هو انتى زعلانة من إيه؟.. هو فيه حد يزعل من إن كتاب القرآن الكريم يحتوى على نبوءات وتفسيرات علمية«.. ولكنها كانت ترد بشكل عنيف وشرس فتقول: »الدعوة إلى فهم القرآن بتفسير عصرى علمى على غير ما بينه نبى الإسلام تسوق إلى الإقناع بالفكرة السامة التى تنأى بأبناء العصر عن معجزة نبى أمى بعث فى قوم أميين فى عصر كان يركب الناقة والجمل لا المرسيدس والرولز رويس والبوينج وأبوللو.. ويستضىء بالحطب لا بالكهرباء والنيون.. ويستقى من نبع زمزم ومياه الآبار والأمطار لا من مصفاة الترشيح ومياه فيشى ومرطبات الكولا..

ونتورط من هذا إلى المزلق الخطر يتسلل إلى عقول أبناء هذا الزمان وضمائرهم فيرسخ فيها أن القرآن إذا لم يقدم لهم علوم الطب والتشريح والرياضيات والفلك والفارماكوبيا وأسرار البيولوجيا والإلكترون والذرة فليس صالحاً لزماننا ولا جديراً بأن تستسيغه عقليتنا العلمية ويقبله منطقنا العصرى«.. هكذا كانت تتكلم بنت الشاطئ فى هجومها ضدى وكانت تقول أيضا: »الذى لا أفهمه وما ينبغى لى أن أفهمه هو أن يجرؤ مفسرون عصريون على أن يخرجوا على الناس بتفاسير قرآنية فيها طب وصيدلة وطبيعة وكيمياء وجغرافيا وهندسة وفلك وزراعة وحيوان وحشرات وجيولوجيا وبيولوجيا وفسيولوجيا.. إلخ،

إما أن أتخلى عن منطق عصرى وكرامة عقلى فآخذ فى المجال العلمى بضاعة ألف صنف معروضة فى الأسواق.. وإما أن أتخلى عن كبرياء علمى وعزة أصالتى فأعيش فى عصر العلم بمنطق قريتى حين يفد عليها الباعة الجوالون بألف صنف يروج لها ضجيج إعلانى بالطبل والزمر عن كل شىء لكل شىء أو بتاع كله فى فكاهتنا الشعبية الساخرة بالادعاء«.. فكان تشبيهها لدعاة الإعجاز العلمى بالحواة تشبيهاً خاطئا وحاداً وأخطأت فى ردها على إعجاز بيت العنكبوت،

وهو عملية اكتشاف تأنيث القرآن للعنكبوت فهذا إعجاز علمى فى قوله تعالى »مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً« وهذا يعد من الإعجاز العلمى لأن العلم كشف مؤخراً أن أنثى العنكبوت هى التى تنسج البيت وليس الذكر وهى حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن ولكن بنت الشاطئ أخطأت حين قالت: »إن مصطفى محمود وقع فى خطأ لا يقع فيه المبتدئون من طلاب اللغة العربية،

فالقرآن فى هذه الآية يجرى على لغة العرب الذين أنثوا لفظ العنكبوت من قديم جاهليتهم الوثنية كما أنثوا مفرد النمل والنحل والدود فلم يقولوا فى الواحد منها إلا نملة ونحلة ودودة وهو تأنيث لغوى لا علاقة له بالتأنيث البيولوجى كما توهم المفسر العصرى، فأى عربى وثنى من أجلاف البادية كان ينطقها هكذا فأين الإعجاز العلمى فى هذا الكلام؟«.. بكل بساطة كانت هذه هى معركة بنت الشاطئ معى »رغم أنها أول من شجعنى على نشر كتابى وهى التى اختارت الاسم له كما قلت من قبل« ولقد لجأت إلى مقالاتها لحل معركة داخلية ومشكلة شخصية فكرية كادت تعصف بى كان محورها ما أؤمن به من إعجاز علمى، ولكن رغم كل ما واجهته من هجوم ونقد فإن ما توقعته وتوصلت إليه من سنوات يتحقق الآن على أرض الواقع.

مذكرات د : مصطفى محمود " أزمة القرآن وانتقادى لكتَّاب مصر " ( الحلقة الحادية و العشرون )

■ إن غض البصر.. وخفض الطرف.. وطلب العلم من الله فى انكسار.. والحياء من غناك إذا كنت غنيا ومن علمك إذا كنت عالما ومن جاهك إذا كنت وجيها ومن سلطانك إذا كنت صاحب سلطان، صفات ذكرها القرآن بكل وضوح

■ ماذا بعد الجهل بنفسك من جهل أيها الإنسان وعسى أن يقربك شعورك بعجزك من الرفق بكل عاجز فاعرف نفسك لأن هذه هى أصعب المعارف، وإنها هى المعرفة الكبرى التى إذا بدأت لا تنتهى هذه هى بداية العلم الحقيقى الذى يورث الأدب مع الله..

مصطفى محمود

هاجموه لأنه كان يحاول دائما أن يدخل سراديبهم المظلمة.. لينقيها وينظفها من خفافيش الظلام.. كانت مشكلته التى يعانى منها أنه لا يستطيع أن يشاهد الأخطاء تقع ويقف صامتا، وهذا كان موقفه فى الموضوعات العادية، فما بالكم إذا كان هذا الخطأ يحدث فى شرح وتفسير القرآن الكريم،

لذلك لم يتحمل فيلسوف الشرق الدكتور مصطفى محمود كل هذه المخالفات التى تحدث من كبار العلماء فى تفسير الآيات الكونية، وصمم على أن يخرج كتابه «التفسير العصرى للقرآن»، ذلك الكتاب الذى أشعل حرب الهجوم من جديد، بعد أن كانت هدأت لسنوات، وهى الحرب التى بدأتها بنت الشاطئ، كما ذكرنا فى حلقة سابقة وكما سنتحدث عن هجومها بالتحديد فى حلقة مستقلة، وفتح بوابة كبيرة من الجدل بين المؤمنين والرافضين.. المؤيدين للإعجاز العلمى للقرآن والكافرين به.. بين عقول متلهفة لمعجزات جديدة تكتشف فى المعجزة الأكبر (القرآن الكريم)، وبين قلوب سلفية رفضت قبول أى جديد فى هذه المعجزة الكاملة.. لم يسبقه أحد إلى تفسير القرآن تفسيرا جديداً فى عصر الفضائيات والقمر والموبايل وجاليليو.

عندما فتحنا له الباب ليتكلم فى هذا الموضوع أبدى أولاً دهشته لعدم استطاعتنا حصر العاملين فى مجال الإعجاز العلمى للقرآن تحت راية الدكتور زغلول النجار، لكننا بالفعل لم نستطع حصرهم فقد زادوا واتسعت مجالاتهم حسب تخصصهم العلمى وزادوا أيضا خارج الدول الإسلامية.

وقال فيلسوف الشرق وعالمنا الكبير الدكتور مصطفى محمود: «عندما قلت إن آذاننا أصبحت لا تجد من القرآن السحر والذهول من الحقائق والبلاغة كما كان يحدث ممن سبقونا، طبعا كلنا نشعر بذلك منذ كنا صغارا يعلمون لنا القرآن بالحفظ فقط دون فهم، هذا بالإضافة إلى لغتنا العامية التى أبعدتنا عن أصول لغتنا مما أجهلنا بمعان كثيرة من الممكن أن نفهمها.. كنت أبحث عن لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه، ويرتد فيها طفلاً بكراً وترتد له نفسه على شفافيتها كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد.. نعم كنت أقصد ذلك.. كتاب الله محفوظ ليس بأيدينا لكن بأيدى خالقنا وخالقه طبقا للآية الكريمة التى تقول: «إن نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»،

ولذلك فقد وضع الله فيه أسباب حفظه وبقائه.. وفائدة التفسير الجديد هو التحديث والتطوير ليصل إلى العقول فى عصر الميكروسكوب والخلايا والنيترون والفضاء.. ببساطة هل المفروض أن يقدم للعرب قديما وهم سكان البادية ورعاة الأغنام والإبل ما يقدم الآن لعالم فضاء أو مهندس ذرة.. نفس المادة وهى كتاب الله الحكيم لكن الاختلاف هنا بين العصرين، والوسيلة التى سيقدم عليها وبها بمعنى آخر على أى طبق أو بأى معنى. هل المعنى الذى تحدث به المفسرون القدامى أم أننا بحاجة إلى طريقة ووسيلة حديثة وجديدة ومعاصرة لمواجهة هذا العصر..

هذا هو ملخص مشكلة التفسير العلمى للقرآن الذى أطلقته منذ ٤٠ عاما وكان بداية لانفجار مدرسة الإعجاز العلمى للقرآن لأننى أيقنت أننا سنواجه طفرة علمية قادمة وهى التى وصلنا أو بمعنى أدق وصل إليها العالم الآن ومازالت تتطور، وكنت أخاطب نفسى هل سيستطيع أحفادى أن يتمسكوا بالقرآن فى تلك العصور ووجدت نفسى أجاوب بنعم ولكن.. وفى لكن تكمن كل الأشياء.. أن يتم تحديث الخطاب وهو التفسير ويكون مواكباً للعصر الذى نعيش فيه ووجدت أن من رحمة الله بنا أن القرآن لا يتغير بتغير الأزمنة وأنه التشريع الثابت لعالم ومجتمعات تتغير وأنه قابل للتفسير العصرى للأزمنة المختلفة..

وببساطة عندما تجد مشركاً بالله متأففا داخل نفسه من ديننا الحنيف ويتصور ويقول إن ديننا يصلح للبادية فقط.. ثم تقرأ عليه آية «غلبت الروم فى أدنى الأرض» ثم تأخذه من يده إلى الموقعة والمكان الذى غلبت فيه الروم فعلا فى حربها الشهيرة، ويكتشف فعلا أن الموقعة التى دارت فيها الحرب من الناحية الجغرافية «بالمصطلح المعاصر»، هى أقل المواقع انخفاضا جغرافيا على كوكب الأرض وهى النتيجة المذهلة التى لم تكتشف إلا فى القرن الحادى والعشرين بواسطة أهم علماء الجغرافيا والطبوغرافيا فى العالم وأحدث أجهزتهم، وتتخيل منظر العلمانى المتأفف من دينك الحنيف، وهو يفتح فاه فى ذهول كالأهبل بالضبط، وهو يرى القرآن الحكيم، وقد ذكر تلك النظرية الحديثة منذ ٢٠٠٠ عام ويخر ساجداً موحداً بخالق العالمين!!

هل وصلكم مقصد تلك الرؤية الحديثة بهذا النموذج المبسط، وهل عرفتم فوائدها، إذن المقصد هو إضفاء روح العلمية على الكتاب الحكيم وهو الشىء الذى سيظهر له بالتأكيد غاضبون وسيخرجون من جحورهم رافضين هذا المنهج العلمى المتطور الذى يثبته القرآن، لكن حال الفرق المختلفة والمدارس المتنوعة فى علم التفسير على طوال التاريخ كان هو الاختلاف والتنافس ولكن مع قبول الآخر فهو الأمر الذى سيعلى من شأن الاختلاف ويقويه ويزيد من أهمية الطرفين، ويزيد أيضاً، وهذا هو الأهم، من روح الابتكار والاجتهاد لكى يحاول كل طرف إثبات رأيه ومنهجه، ولكن ما يحدث هنا عجباً فى زمننا هذا الذى يحول التفكير إلى تكفير،

كما أننى لست الوحيد من المعاصرين الذى حاول تفسير القرآن تفسيراً عصرياً بل إن أحد عمالقة جيلى، مثل عباس محمود العقاد، قد حاول تفسير القرآن تفسيراً عصرياً لكنه لم يستطع أن يكمله لأن القدر الإلهى كان قد تدخل ووافته المنية، وقد هاجمته عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطئ» بالفعل، وكان ما حدث بينهما كالتالى: فبعد إعلانه أنه بصدد إنهاء تفسيره الحديث للقرآن، ووجد ما دار من جدل بينها وبين العقاد فى هذه القضية، وبعد أن كتب العقاد كتاباً بعنوان «المرأة فى القرآن» أورد فيه فقرات فيها انتقاص للمرأة، فأورد أن النظافة ليست من خصائص الأنوثة، واعتبر أنه من الضلال فى الفهم أن يخطر على بال أحد أن الحياء صفة أنثوية، وكذب مقولة أن النساء أشد حياء من الرجال،

وعلى هذا المنوال أخذ العقاد يكيل الاتهامات للمرأة، وكان هذا العنف ضد المرأة ما دفع بنت الشاطئ للهجوم عليه والرد بمقالات صحفية تحت عنوان: «اللهم إنى صائمة» انتقدت فيها العقاد بعنف شديد، فما كان من العقاد إلا أن وجه سهام نقده اللاذع إليها بشكل أعنف وأقوى، فهو كان عبقرياً فى الهجوم، معتبرا إياها المثال الوحيد الماثل أمامه على تناقض المرأة، وواصفا إياها بأنها «الست» مفسرة القرآن، فأنا أذكر هذه القصة لأقول إن بنت الشاطئ كانت تستهدف أى شخص يحاول الكتابة عن القرآن وكأنها أصبحت تملكه،

وعندما هاجمتنى لم أرد عليها بكل هذا العنف الذى استخدمه العقاد فى الدفاع عن نفسه، وهذا حقه المشروع الذى لا أنكره عليه، لأننى كنت أقدر علمها وأحترمها، واكتفيت بأننى اتخذت منها موقفاً على طول الخط، ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك هجوماً ضدى ليس من داخل مصر فقط ولكن من الخارج أيضا، ووجدت أن هناك مجموعة من الكتيبة السلفية فى السعودية تهاجمنى بشدة وتتهمنى بالكفر والشطحات، وهنا وجدت أننى لا أستطيع تحمل الاتهامات التى تلصق بى أكثر من هذا، وأننى لابد أن أرد عليهم وكان من بين من هاجمونى الكاتبة السعودية سهيلة زين العابدين، وهى التى هاجمتنى على الملأ بالكلام التالى: «إنك خضت فيما ليس لك به علم..

أولا بدأت بتفسير القرآن تفسيرا عصريا، وأخضعته لمفاهيم ونظريات علمية، ولكن القرآن لا يخضع أساسا للقوانين العلمية لأنه كتاب منزل من عند الله ولا نستطيع أن نفسره بموجب الاكتشافات العلمية، لأن هذه الاكتشافات قابلة للتغيير فلو ربطنا القرآن الكريم بهذه الاكتشافات العلمية والقوانين ثم حدث بعد ذلك أى تغيير فى هذه الاكتشافات، فسوف يكون هناك تناقض مع ما جاء فى القرآن حسب التفسير الأول وهذا حقيقة ما يسعى إليه أعداء الإسلام،.

ولقد حاول «مونتجمرى» و«ريتشارد بيل» من خلال دراسة عن القرآن الكريم وقالا إنهما لم يجدا فيه ثغرة يمكنهما من خلالها أن يثبتا عدم مصداقية القرآن رغم محاولاتهما المستمرة ومع هذا يحاولان التشكيك فى القرآن.. وذكرت أن الاستعمار البريطانى طلب من السيد «ميرزا أحمد» المؤسس الرئيسى للقاديانية أن يفسر القرآن التفسير العصرى وأن يربطه بالعلم للنيل منه، وقالت إننى الآن أسير على نفس النهج وإننى أقع فى شطحات كثيرة واتهمتنى أيضا بأننى فسرت خلق الإنسان حسب نظرية «داروين» أى أنه خُلق حيواناً، وقالت إن كتب التفسير جميعها سواء كانت التفسير المأثور أو التفسير بالرأى لا تختلف عن تقرير وجهتين:

الأولى أن الله سبحانه وتعالى أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته فى الأرض يفسدون فيها ويسفكون الدماء، وقالت إننى اكتفيت بدلالة ما قد ظهر من الكلام وهذا معروف فى القرآن وفى اللغة، ولكن جهلى فى اللغة أوقعنى فى المحظور وذكرت تفسيرى لآية داخل صفحات كتاب التفسير العصرى للقرآن وهى «ولقد خلقناكم ثم صورناكم» وقال تفسير لها إن آدم مر بمراحل التخليق والتصوير والتسوية واستغرقت ملايين السنين، وهنا قالت: لو تأملت سورة آل عمران التى يقول فيها جل شأنه «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» وقالت: فهل خلق عيسى، عليه السلام، فى رحم أمه استغرق ملايين السنين، ومر بأطوار حيوانية مفترسة كما زعمت يا دكتور؟».

هنا وجدنا أنفسنا شغوفين بالاستماع إلى رد الدكتور مصطفى محمود على كل هذه الاتهامات، حيث قال بعد أن صمت لدقائق: «كان ردى على الاتهامات أنها كعادة كل المهاجمين لم تقرأ كتابى وتهاجمنى عن عدم فهم لما أكتب، وهنا يجب أن أذكر جانباً مهماً لم أتحدث عنه من قبل، وهو لماذا أنا بالتحديد اتخذت قرار تفسير القرآن فى هذا الوقت، والإجابة التى ستذهل الجميع هى أننى كواحد من كتاب مصر وجدت أن الكثير من أصدقائى المفكرين والكتاب يدعون إلى هدم الدين وعدم التمسك بالقرآن الذى لم يعد يصلح لهذا الزمان وهذا العصر، وكان نتيجة ذلك أننى اختلفت معهم رغم أن بينهم أصدقائى،

وكان من هؤلاء الكتاب: توفيق الحكيم، وطه حسين، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف إدريس، وأدونيس، ونزار، والبياتى، ونوال السعداوى، ونجيب محفوظ، وعبدالله الغذامى، وصلاح عبدالصبور، ومحمد العلى، وأمل دنقل، وبدر شاكر السياب، وفوزية أبوخالد، ونجاة عمر، وعبده خليل، وغيرهم كثيرون فى كل أنحاء الوطن العربى، وهنا سأوضح ردودى ومأخذى على كل واحد منهم بما كتبوا بأنفسهم وليس بما أكتب أنا الآن، حيث وجدت أن توفيق الحكيم أنكر الشهادتين، وذكر أن الإنسان عليه أن يكتفى بالإيمان بهما دون اللفظ،

وقال إن إرادة الله تعادلى إرادة الإنسان فى كتابه «التعادلية» حيث ذكر فى طيات صفحاته أن الإنسان خُلق ليحارب القوى الإلهية وهو متأثر بالفكر الإغريقى فى «أهل الكهف»، وفى مسرحيات «سليمان الحكيم» و«شهر زاد» و«الملك أوديب» يتضح الأثر الوثنى الإغريقى على فكر توفيق الحكيم، فى كتابه «راقصة المعبد» فقد جعل توفيق الحكيم الفن إلها يعبده ويستغفره ويسجد له ويستجير به، وفى كتابه «الشهيد» صوّر الشيطان بالشهيد الذى رفضت توبته، وفى مسرحية «أهل الكهف» خالف النص القرآنى تماما واعتبر أن قصة أهل الكهف والقصص القرآنية هى من إبداع العقلية العربية الإسلامية وأنكر واقعية القصص القرآنى، وفى مسرحية «محمد رسول الله» نظر للرسول، عليه الصلاة والسلام، على أنه بشر فقط ولم ينظر إليه على أنه بشر ورسول،

وفى الحديث النبوى الشريف «حُبّب إلى الطيب والنساء وقرة عينى هى الصلاة» ذكر الشطر الأول من الحديث وحذف قرة عينى هى الصلاة كما يفعل المستشرقون، وذكر أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، تزوج بعد كل غزوة وأن له جلادا، وفى قصة سليمان الحكيم حوّل هذه القصة إلى حب وغرام وسحر ونظر إلى سيدنا سليمان نظرة اليهود، وقال إن العرب أمة لا ماضى لها ولا تاريخ وإنهم أمة تجرى وراء اللذة والمتعة ودعا إلى الفرعونية والاشتراكية.

كما أننى انتقدت أدب طه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وغيرهم ممن لهم قراء وجمهور كبير فى الوطن العربى، رغم أنهم أصدقائى، ومع ذلك هاجمتهم بشدة من خلال مجهر التصور الإسلامى.

فقلت وبكل صراحة إن طه حسين متأثر بالمستشرقين، خاصة اليهودى «مارجليوث»، ولقد تعمقت فى أدب طه حسين ودرسته جيداً، خاصة كتبه الإسلامية مثل: «فى الشعر الجاهلى» و«الوعد الحق»، و«مرآة الإسلام»، و«الفتنة الكبرى»، و«الشيخان»، وأمعنت النظر فى «الأيام»، و«حديث الأربعاء»، و«ابن خلدون» وغيرها من الكتب فوجدت أنها جميعا تظهر بوضوح تأثير الفكر الاستشراقى فى فكره، وهذا ليس غريبا وهو أيضا لم ينكره بل يعترف به،

وحين وضعته تحت مجهر التصور الإسلامى كان مأخذى عليه، أنه أخضع القرآن الكريم والتاريخ الإسلامى لمنهج الشك الديكارتى، وأنه قصر القرآن الكريم على الأمة العربية وليس للناس جميعا حيث قال: «إن الدين الإسلامى دين للعرب وحدهم وقد نزل لإصلاحهم فى فترة زمنية معينة وقد انتهى دوره» وأنكر ما جاء عن النبى، صلى الله عليه وسلم، فى التوراة والإنجيل، وشكك فى نسب الرسول، صلى الله عليه وسلم، وفى الحنيفية ملة إبراهيم، وقد ثار عليه الأزهر فى حينها وتراجع عن بعض آرائه، ولكننى وجدت أنه، باختصار، يطبق فكر «مارجليوث» ونظريته فى الشك على ثوابت الإسلام، وأخضع الأسلوب القرآنى للنقد، وهذا ما أثارنى وحفزنى على إخراج كتابى، وقد أوجد مادة عندما كان يدرس فى جامعة فؤاد الأول اسمها «نقد القرآن الكريم» ودعا طه حسين إلى الأخذ بالحضارة الغربية بخيرها وشرها وحلوها ومرها.

أما نجيب محفوظ فاسمحوا لى أولا أن أوضح أننى لم أهاجم نجيب محفوظ ولم أوجه له التهم لأننى أقدره ككاتب وأحترمه كصديق، لكنه هو الذى أدان نفسه ولست أنا، وهذه النقطة الأساسية هى التى أود توضيحها بالنسبة لكل من تصديت لهم فأنا لم أدع عليهم ولم أفتر، بل أدبهم وفكرهم ومنهاجهم هى التى تدينهم والنصوص موجودة داخل كتبهم ولم تستطع الهروب والإفلات منها، فنجيب محفوظ عليه الكثير من المآخذ،

فقد جعل الله سبحانه وتعالى أباً، وجعل له زوجة وأبناء وقد أقر به بهذه الصور فى كتب «أولاد حارتنا»، و«الشحاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«بداية ونهاية»، وقد ذكر الأستاذ جورج طرابيشى فى كتاب «الله فى رحلة نجيب محفوظ» مبينا أن نجيب رمز إلى الله عز وجل، فى هذه القصص بالأدب، فكتب له نجيب محفوظ رسالة قال له فيها: «أقر أن استدلالاتك خير من عبر عنى فيها»، وقد نشر طرابيشى هذا الخطاب على الغلاف الأخير من الكتاب حتى يبرئ نفسه من أى تهمة وحتى لا ينكر نجيب محفوظ هذا الخطاب الممهور بتوقيعه،

كما أننى كنت أنتقد ترويجه للإباحية والعبثية فى كتبه التى تظهر من خلال كتبه «اللص والكلاب» و«الطريق» و«عبث الأقدار»، كما تأثر بالماركسية والاشتراكية وفصله بين المادة والروح، وغلب على كتاباته الانتماء اليسارى، كما ظهر فى «الثلاثية»، كما تحدث فى «ثرثرة فوق النيل» عن غياب الله.

وكذلك أدب إحسان عبدالقدوس هو الذى يدينه، فلقد استبعد إحسان الدين تماماً من قصصه، وإذا ذكر جانباً دينياً نجده يصور الاتجاه الآخر بالقوة، الفرويدية والوجودية ظاهرة فى قصص عبدالقدوس وبطلات وأبطال قصصه تسيرهم الغريزة الجنسية، وهى المحور الأساسى بكل شخصياته، وقد برر الخيانة الزوجية، وفى قصة «أرجوك أعطنى هذا الدواء» جعل علاج الخيانة الزوجية، من الزوج لزوجته أن تقوم الزوجة بالخيانة أيضا، وأن تكون لها علاقات برجال آخرين،

وبذلك تتساوى شخصيتها مع شخصه، وعندما رفضت الزوجة فكرة الخيانة اتهمها طبيبها بأنها تسير على تقاليد متحفظة، وقد درست أدب إحسان واتضحت لى معالم فكره وأدبه ورأيت أنه فى مجمله يمثل الأدب المكشوف، وأن له نظراته الخاصة لله، عز وجل، وللكون والحياة، وهى نظرة جمعت بين العلمانية والواقعية والاشتراكية والإسماعيلية والفرويدية والوجودية والسارترية، وتبين من خلال دراستى بعده عن المنهج والمنظور الإسلامى، وعن التصور الإسلامى للألوهية والدين والحلال والحرام،

وهذا يتجلى فى أبطاله وبطلات أعماله عن الدين، فهم لا يندمون لارتكاب الفواحش ولا يصومون ولا يصلون، ولا يرون ضررا فى إقامة العلاقات غير الشرعية، وقد جعل الحب فوق الحلال والحرام، وهاجم الحجاب، والفصل بين الجنسين، وقال إن شرف البنت وعذريتها من التقاليد التى يجب التمرد عليها، وهناك المئات من الأمثلة.

مذكرات د : مصطفى محمود " كفّرونى للمرة الثانية عندما أصدرت «التفسير العصرى للقرآن» " ( الحلقة العشرون )

■ «لا تنظر إلى ما يرتسم على الوجوه.. ولا تستمع إلى ما تقوله الألسن.. ولا تلتفت إلى الدموع.. فكل هذا هو جلد الإنسان وهو يغير جلده كل يوم»

■ «ابحث عما تحت الجلد.. وهو بالطبع ليس القلب فهو الآخر يتقلب.. وأيضا ليس العقل فهو يغير وجهة نظره كلما غير الزاوية»

■ «انظر دائما إلى لحظة اختيار حر.. والحقيقة أنهم مجانين هؤلاء الذين يتخذون المال هدفا لحياتهم»

■ «الإنسان ليس له سوى بطن واحد.. ولا يسكن إلا بيتا واحدا.. فإذا زادت ثروته على حاجته سيكون هو خادما للزيادة ولن تكون هى فى خدمته»

مصطفى محمود

بالطبع كانت له رؤية دينية مختلفة.. يتعامل مع الدين مثلما كان يقول دائما على أنه الروح التى لا ترى بالعين البشرية أو المجردة.. بكل بساطة ذلك هو معنى الدين عند فيلسوف الشرق.. الفارس المتمرد.. الدكتور مصطفى محمود الذى حمل منذ الصغر أسئلة الشك التى عبرت بحار وجبال وأوطان الأديان السماوية والدنيوية ليصل إلى اليقين. كلنا يتذكر واقعته التى رواها مع واعظ وخطيب وإمام مسجد سيدى عز الرجال بطنطا الذى استخف بعقله وهو طفل صغير فكان سبباً فى رحلة الشك التى رافقته..

ومنذ تلك اللحظات اكتسب الدكتور مصطفى محمود بداخله الإصرار الذى كان دافعه إلى تحقيق أحلامه بأن يكون مفكراً كبيراً يطرح رؤية جديدة تفيد البشرية وكان من بين هذه الأحلام أن يبحث فى عمق الدين الإسلامى ليخرج للعالم الإسلامى بنظريات دينية فلسفية مباحة وليست فلسفية ملحدة كما يظن البعض والتى كان من بينها تفسيره العصرى للقرآن الذى أثار جدلاً فى مصر والعالم العربى فقد كان هذا الكتاب الذى أراد فيه أن يطرح رؤية جديدة لتفسير الآيات الكونية سبباً فى تحامل الكثير من الأئمة عليه..

وهنا يقول مصطفى محمود:لم أكن فى يوم من الأيام رجل دين بل أنا فنان دخلت إلى رحاب الدين من باب الفضل الإلهى ومن باب الحب والاقتناع وليس من باب الأزهر الذى أقدره وأحترم بعض مشايخه ولكنى أرفض سياسة البعض منهم فى تفسير القرآن ومنهجية دراسة الدين الإسلامى التى فقدت بريقها.. ومن هنا كان حكمى دائما حكم الشاعر وليس الشيخ أو الفقيه..

بل فقط الشاعر الذى أحب الله فكتب فى عشقه قصيدة وبنى له بيتا ولكنه ظل دائما الفنان بحكم الفطرة والطبيعة وذلك الفنان الذى مملكته الخيال والوجدان وكان دائما ضعفى وقوتى فبهذه الروح النقية أحببت أن يقرأنى الناس فما تصورت نفسى أبدا مفسراً لقرآن أو حاكما فى قضية فقه أو شريعة وإنما كانت مجرد محاولات من مفكر تحتم عليه أن يقدم للبشرية كل ما هو مفيد ودائما يكون دوره لا يزيد على إثارة العقل وإخراجه من رقاده وإيقاظ القلب من موته فقد كان كتاب «الله والإنسان» الذى تكلمت بشأنه من قبل أول أعمالى والذى أثار جدلاً واسعاً وبسببه وجه لى أول اتهام بالكفر

ولكنى بعد أن تخطيت مرحلة الشك ووصلت للإيمان واليقين واجهت أخطائى بشجاعة لإيمانى بأن الاعتراف بالخطأ صدق مع النفس، وإيمانا بهذه المبادئ كان إصرارى الشديد على أن يحذف هذا الكتاب بعد ذلك من مجموعة أعمالى الكتابية والأدبية والفكرية والفلسفية ولكن كنت أحدث نفسى كثيرا كيف أمر بكل هذه التجارب الصعبة دون أن أقصها على الناس ليستفيدوا منها وحتى تكون طريق هداية وتجنب الأخطاء لأبنائنا وجاءتنى الفكرة فى إعادة طباعة كتاب الله والإنسان ولكن بعد أن أجريت بداخله التعديلات التى تؤهله للنشر وبالفعل صدر تحت مسمى «حوار مع صديقى الملحد» ولاقى إعجاب الجميع ولكن لأن بعض أصحاب العمائم يستهويهم مشاغبتى فنادوا من فوق منابرهم بأن ذلك الكتاب اعتراف صريح منى بالكفر وأن ذلك الصديق الملحد كان هو أنا أيام الإلحاد ورحلة البحث ولكن كانت أعيرتهم اللفظية هذه المرة فشنك..

ولم يستمع لهم أحد سواء من الشارع المصرى والعربى أو المسؤولين ولم أقدم لمحاكمة كما كانوا يطالبون بحجة دفع المجتمع للإلحاد وهنا يجب أن أوضح نقطة مهمة جدا وهى أنه من الممكن أن يغير الكاتب أو الباحث فى الطبعات المختلفة لكتبه ومؤلفاته عن الطبعات الأولى وذلك لاقتناعه بأفكار جديدة تلائم روح أو ظروف العصر لم يكن يعيها أو يتطلع إليها من قبل ولقد حاكمت نفسى من خلال هذا الكتاب وعرفت ما هى أخطائى وذلك لأنه لابد أن يراجع الكاتب أفكاره وأنا أؤمن بأن من يخطئ على الملأ يجب أن يتوب وينوب على الملأ أيضا..

فالإنسان فى كثير من الأحوال خاطئ والقرآن هو الكتاب الوحيد الكامل كما قال الله ورسوله وهو الذى يؤخذ منه ولا يرد عليه أو يجادل فيه أحد ولهذا فقد فسرت بعض آيات وسور من القرآن وخرج فى كتاب تحت مسمى «القرآن تفسيرا عصريا» ولكن واجه نفس موجة الاعتراضات والتكفير وكانت هذه هى السمة الغالبة والموجودة تجاهى دائما من المشايخ فهم لا يريدون أن ينافسهم أحد وبالطبع لم يفهمه البعض وأخذوا المعنى خطأ وقد كنت أتكلم فيه حول قضية أن القرآن فى كل عصر يفض مكنونا جديدا ومن أجل هذا نقول إن القرآن لا ينتهى فيه كلام فهو ليس مثل أى مقال يكتب ويبرز مضمونه بعصره ولا يقرأ بعد ذلك ولكن القرآن مضمونه ثرى وغنى جدا ففى كل عصر يعطى لك معنى جديداً

وأيقنت أن الطريق إلى الله وفى رحابه هو خير الطرق وأن اللجوء إليه هو أعظم وأجل ودائما كان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فى دعائه «اللهم بك انتصرت اللهم بك أصول اللهم بك أجول ولا فخر لى» فهو يعتبر فى كل حركة بالله سبحانه وتعالى ثم يأتى الرسول فى دعائه ويقول «اللهم إنى أعوذ بعفوك من عقابك اللهم أعوذ برضاك من سخطك اللهم أعوذ بك منك» وقد نتساءل على عبارة الدعاء الأخيرة وهى اللهم أعوذ بك منك وتقول كيف؟

وفى هذه المقولة كنت أفسر أن الذى خلق الشيطان هو الله سبحانه وتعالى وهو أيضا خالق الميكروبات والسرطانات والموت وهو مفجر البراكين والزلازل وهو الضار النافع فبدلا من أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يقول أعوذ بك منك لا أحد غيره لأن الشيطان ما هو إلا جند من جنوده ومخلوق من مخلوقاته وبنفخة من الله يطير وهذا فى حد ذاته منتهى التوحيد وما خرج كتابى يحمل هذه المعانى إلا وظهرت موجة جديدة من التكفير تطاردنى بعد أن كانت اختفت لبعض السنوات وطالبت نفس الفرقة بتكفيرى وإعدامى بالرغم من أن هناك فئة اقتنعت بتلك التفاسير وكانوا علماء فى مجال التفسير.

وأيضا حمل كتاب التفسير العصرى للقرآن تفسير بعض الآيات الكونية التى تتحدث عن النجوم والفلك والقمر والليل والنهار والكون والطبيعة وقلت فى تفسيرى لها إنها لم تكن مفهومة فى عصرها لأن السلف الصالح لم تكن لديهم الخلفية العلمية لعلوم الفلك وأيضا لم يكن ظهر فى عصرهم الأجهزة الدقيقة والعلم المتقدم الذى أصبح فى عصرنا يحمل صاروخ الرجل إلى القمر والكواكب الأخرى ولكن الآن أصبحت مفهومة ويمكن تفسيرها بشكل أعمق وأصدق وفسرت هذا بأنه العطاء الجديد للقرآن الكريم ولكن المهاجمين لى حملوا مشاعل الثورة ضدى وقالوا كيف يفسر القرآن وهو ليس بأزهرى ويرتدى بدلة ولا يرتدى الجلباب فكنت أضحك من حجتهم هذه وأقول يا حسرتاه على الدين الذى تتحكم فيه وتدرسه لأبنائنا تلك العقول التى لا أجد كلمة فى قاموس الوصف تصف أحوالهم..

لكنى كنت دائما أرد عليهم «أنا الذى لم أتعود الرد والدفاع عن نفسى أبدا وأترك من يتكلم ينبح لأن الزمن سيثبت صدق نظرياتى» بعد أن يفيض بى الكيل أقول «تقولون إنكم ترفضون تفسيرى للقرآن وتدخلى فى شؤون الدين لأننى لست أزهريا ولا أنتمى إلى هيئة تدريس من علماء العالم الإسلامى فيقولون نعم.. فأقول ما قولكم فى سيدنا أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وعقبة بن نافع إلى آخر الصحابة.. فيقولون لا غبار عليهم.. يعنى لم يتخرجوا من الأزهر الشريف ومع ذلك تأخذون العلم عنهم فكانوا يصمتون!!

ولكن أكثر ما تأثرت كثيرا فى موجة كتاب «تفسير القرآن» عندما هاجمتنى بنت الشاطئ رغم أننى بعد أن اجتهدت وكتبت لم أشرع فى طباعة الكتاب قبل أن أعطيها نسخة منه لتطلع عليها وتقول رأيها فيه وذلك لأنى كنت أقدر وأعتز بآرائها فى قضايا الدين فهى كانت عالمية فى مجالها بمعنى الكلمة وفوجئت فى أحد الأيام باتصال تليفونى تطلب منى زيارتها فى منزلها فذهبت وعلى الفور وبمجرد أن شاهدتنى قالت لى «إيه الأسلوب الرائع ده.. اجتهاد رائع.. وعمل تحسد عليه..

وسيلاقى إعجاب الجميع» وقالت «اخترت للكتاب اسم ولا لسه فقلت لها هيكون شرف ليه لو اقترحتى عليه اسم» فقالت اسمع سمه «التفسير العصرى للقرآن» وبالطبع الاسم أعجبنى كثيرا وعلى الفور أطلقته على الكتاب ولكنى تأثرت كثيرا وكنت أسأل نفسى لماذا فعلت هذا وهى من أطلق على الكتاب اسمه وهو دليل على أنها اقتنعت بمضمونه الذى يحمل رؤية جديدة للتفسير فقد أحزننى كثيرا هجومها على وعلى الكتاب فى جريدة الأهرام التى قالت فية «إننا لا يجب أن نتورط إلى المزلق الخطر الذى يمكن أن يتسلل إلى عقول أبناء هذا الزمان وضمائرهم فيرسخ فيها أن القرآن إذا لم يقدم لهم علوم الطب والتشريح والرياضيات والذرة فليس صالحا لزماننا ولا جديراً بأن تسيغه عقليتنا العلمية ويقبله منطقنا العصرى هكذا باسم العصرية نغريهم بأن يرفضوا فهم القرآن كما فهمه الصحابة فى عصر البعث ومدرسة النبوة ليفهموه فى تفسير عصرى من بدع هذا الزمان»

واتهمتنى بأننى نموذج لمن يتكلمون فى القرآن بغير علم وأنها تخشى على الدين الإسلامى والقرآن الكريم من بدع التأويل بالرأى والهوى وأخرجت كتاباً كاملاً تهاجمنى فيه ولم أعرف حتى اليوم سر هذا العداء الرهيب الذى حملته لى رغم أنها وافقت على الكتاب قبل طباعته وقالت تفسيرك عصرى وجميل ولذلك أطلق اسم التفسير العصرى على كتابك «وهجوم بنت الشاطئ وكتابها سيكون موضوع حلقة قادمة»..

ثم حدث هجوم رهيب ضدى وضد كتابى من الجماعات الإسلامية وتعرضت للتهديد بالقتل منهم أكثر من مرة عن طريق التليفون وعن طريق خطابات البريد وكنت أعيش فى حالة من القلق والحياة غير المستقرة ليس خوفاً على حياتى ولكن على حياة أبنائى..

فأنا تعودت على تلك الحياة المليئة بالمغامرات ولكن انتهى الهجوم كما يحدث دائما بعد أن استقر العلم وأصبح اتجاها مستقرا فى الأذهان برغم أنف الجميع لأننى حين قلت التفسير العلمى فإننى لا أعنى بذلك القرآن ككل وإنما الآيات الكونية وهى آيات محدودة وتتناول الفلك والنجوم والسماوات والجبال فلابد أن يظل باب الاجتهاد مفتوحاً وغير مقصور على فئة معينة من الناس فلا يمكن أن يحصل رجل الدين فى الإسلام على مكانة الحاخام عند اليهود أو البابا فى المسيحية أو الخومينى عند الشيعة حتى يصبح له مكانة أكبر من الإله ويشرع على أهوائه ويكفر من يشاء فرجل الدين له احترامه ومنزلته ورمز للإسلام

ولكنه ليس إلها أو نبياً مرسلاً ومن الطبيعى أن يحمل نظريات خاطئة وليس الدين مقصوراً عليه وحده فمازلت لا أعلم لماذا يغضب هؤلاء رغم أن علم الفلك ليس تخصصهم والآيات الكونية أيضا ليست تخصصهم وهؤلاء يتصورون أن القرآن نزل للسلف ولقريش فقط وهذا غير صحيح فنحن مدعوون لأن نتدبر القرآن والله سبحانه وتعالى يدعونا لأن نتدبر «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» وإذا كان هؤلاء يؤمنون بالتخصص فكل ما ورد فى الموضوعات العلمية والفلكية لا يدخل فى تخصصهم.

وبعد كل ما دار من أزمات ومواجهات وإصرارى على مواجهتها بشجاعة لأثبت صحة رؤيتى المختلفة لتفسير القرآن.. كان كتابى التفسير العصرى للقرآن وباعتراف الصديق والعدو هو البوابة التى حطمت احتكار الدين على أصحاب العمائم مرتدى العمة والكاكولة خريجى الأزهر الشريف الذى أقدره وأحترمه.. وكان هذا يعد بمثابة مبادرة ودعوة لدخول الكثير من المجتهدين بعد ذلك وربما نرى بعضهم على الساحة الإعلامية الآن من الدعاة المودرن مرتدى البدل والكرافتات»..

وقمت بعد ذلك بإصدار العديد من الكتب الخاصة بالدين الإسلامى والأديان الأخرى بداية بكتاب الله والسر الأعظم ورأيت الله والتوراة والإنجيل والبهائية قبل أن يعرفها الناس ويظهر أتباعها على الساحة الإعلامية، والكثير من الأعمال الأخرى حتى وصلت مجموعة مؤلفاتى اليوم إلى تسعة وتسعين كتاباً ولكن لم يقف اجتهادى عند هذا الحد الذى مازلت أعتبره بسيطاً.

مذكرات د : مصطفى محمود " «إلحادى» كان صحياً " ( الحلقة التاسعة عشر )

■ (أنا عمرى ما شككت فى وجود الله سبحانه وتعالى.. وأنه الواحد الأحد القهار.. ولم ينتبنى الشك مطلقاً فى القدرة الإلهية وأنها تدير هذا الكون الكبير من حولنا وأن هذا الكون باتساعه الكبير هو خير برهان ودليل على وجود الخالق الأعظم فهو يفصح ويثبت ويبرهن بل يهتف (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

■ الشك كان فى مسألة القضاء والقدر والجبر والاختيار والجنة والنار ونوع الخلود وشكله ومظهره. وكان رجال الدين يعتبرون أن مجرد التفكير فى مثل هذه المسائل يعتبر الكفر بعينه.. وأنا لم أكن كافراً!.. وهذا هو السبب فى أن كامل الشناوى قال لى فيما بعد: «قديما كانوا يفكرون ويتعمقون فى مثل هذه الشكوك دون أن يعرضوا للشنق وهى قضايا الجبر والاختيار.. والقضاء والقدر.. والجنة والنار.. والبعث والخلود»

مصطفى محمود

الإلحاد كلمة كثيراً ما هاجمها أبناء الدكتور مصطفى محمود وحاربوها بشدة وكرهوا كل من أطلقها عليه أثناء حياته.. أمل مصطفى محمود ابنته الكبرى وأمه الروحية فى نصف عمره الأخير.. وهبت عمرها منذ زمن لا بأس به لأبيها، تهتم بكل تفصيلة فى حياته.. تقرأ له وتقرأ عنه.. تغار عليه بشدة، ذات مرة احتقن صوتها وهى تتكلم عن كلام نشرته الكاتبة لوتس عبدالكريم.. رغم رقة أمل وهدوئها وأدبها الجم تحمل بداخلها قنبلة قد تنفجر فى وجه كل من يفكر فى أن يهمس بشىء عن أبيها.. أو يتكلم بحديث خاطئ عنه، خصوصاً من يطلق عليه هذه الصفة.. «ملحد».

أما نجله آدهم بملامحه الطيبة الرجولية وهدوئه الخالص وثباته عند الانفعال وخجله عند الإطراء.. يحتقن وجهه كثيراً إذا ذُكر أبوه بأى سوء وهو المتشبع بنبض أبيه.. ربما أخذ أشياء منه لكنه يختلف عنه فى كثير من الأشياء الملحوظة مثل الجسم الرياضى والعقلية التجارية.. مع ذلك نجد أنه يرفض وبعنف أى وصف لأبيه بتلك الصفة الشنيعة.. «ملحد».
نذكرها هنا صريحة.. لا تحتمل الجدل أو الهزل (الدكتور مصطفى كان فى أحد الأيام ملحداً!!) نعم كان فى شبابه ملحداً.. حتى ولو رفض أدهم وقال: كان شكاً.. أو ترتاع أمل وتقول كيف يلحد أحد الأشراف.

وهنا الأمر يحتاج منا وقفة.. ولندع الدكتور مصطفى يحكم بنفسه فى تلك القصة.. وسنجده يؤكد فى تسجيله الصوتى: «أنا مررت بكل المراحل الفكرية من الشك إلى اليقين، من الإلحاد إلى أن أصبحت خادم كلمة التوحيد».. هل فى هذا الكلام ما يزعج؟

طبعاً هناك ما يزعج.. فمن وجهة نظر كل الناس الملحد هو شخص ضد الله، وضد الدين، ويكرهه الناس حتى لو كان هؤلاء الناس أنفسهم غير مهتمين بالدين ولا يعرفون عن الالتزام به شيئاً، ولكن الحقيقة أن عالمنا الكبير مصطفى محمود إبان عمله كطبيب فى أول حياته كانت الفكرة قد بدأت تختمر فى أرجاء عقله فيقول: «لم تكن هذه البداية.. فالبداية منذ الطفولة منذ كتاب سيدى عز والشيخ الدجال الذى سبب وعظه الخاطئ لى نفوراً شخصياً منه وإلى أن يتجه عقلى إلى طريق آخر فى التفكير.. وببساطة أسرد لك بداية مرحلة الشك فى صورة أفكارى وأنا طفل وهو: لماذا نستقبل منذ مولدنا كل الأفكار كمسلمات يجب أن نرضى بها؟! لماذا نقنع بكل ما يدرس ويعلم لنا من الكبار؟! هل هم علماء وكلامهم يقين؟! هذه هى بداية الشك التى تحدث عادة لأى أحد فى نفس مرحلتى وظرفى».

الحقيقة أن فى كلام الدكتور مصطفى محمود خير شرح للحالة التى ثار حولها الجدل، وظلت تلاحقه فى كل أزمة يمر بها فيما بعد من بداية للتفسير العصرى للقرآن ثم الشفاعة.. الإلحاد الذى يقصده الدكتور هنا ليس المقصود به الشرك، حاشا لله، وليس المقصود الكفر بالله أو أنه الإلحاد الذى يتعلق به الماديون والجدليون أو الهيجليون.
ولكن ما يقصده هو كما أخبرنا (أنا عمرى ما شككت فى وجود الله سبحانه وتعالى.. وأنه الواحد الأحد القهار.. ولم ينتبنى الشك مطلقاً فى القدرة الإلهية وأنها تدير هذا الكون الكبير من حولنا وأن هذا الكون باتساعه الكبير هو خير برهان ودليل على وجود الخالق الأعظم فهو يفصح ويثبت ويبرهن بل يهتف (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

الشك كان فى مسألة القضاء والقدر والجبر والاختيار والجنة والنار ونوع الخلود وشكله ومظهره. وكان رجال الدين يعتبرون أن مجرد التفكير فى مثل هذه المسائل يعتبر الكفر بعينه.. وأنا لم أكن كافراً!.. وهذا هو السبب فى أن كامل الشناوى قال لى فيما بعد: «قديما كانوا يفكرون ويتعمقون فى مثل هذه الشكوك دون أن يعرضوا للشنق وهى قضايا الجبر والاختيار.. والقضاء والقدر.. والجنة والنار.. والبعث والخلود».. ولكن كل هذه المسائل والقضايا تغير فيها تفكيرى تماماً بعد بحث وتفكير كبيرين، مع إطالة التفكير والتدبر والتعمق فى آيات القرآن. وأحسست أن القرآن كتاب عجيب.. لا تستطيع أن تحذف أو تضيف حرفاً إليه.. القرآن جامع مانع.. نسيج وحده.. دستور للبشر أجمعين فى كل زمان ومكان.

إذاً الإلحاد المقصود هنا هو إلحاد صحى.. ليس إلحاد الجماعات الشمولية الذى يريد عدد من أفرادها الكسالى أن يتخلصوا من عبء الفروض الدينية أو ما يلحق بها أو يبعدوا عن أذهانهم سبب آلام ضمائرهم.. فخلاصة أى كلام عن إلحاد الدكتور مصطفى محمود تكون أنه إلحاد من أجل الوصول إلى الإيمان الكامل.. اليقين التام.. وهكذا.

فى كل عصر يظهر فيلسوف معين فى زمن صعب وأوقات المحنة فى عصره.. يرفض الفيلسوف أن يسير على خطى السابقين.. يسأل نفسه إذا كان الكلام الذى يعلمونه لنا هذا كاملاً ويقينيا، فلماذا ساء الوضع وتدهور هكذا.. الأمر يحتاج إعادة التأكد من صحة المسلمات التى تلقن فى أماكن العلم.. مر بهذه المرحلة الكثير بداية من أفلاطون فى الدولة الإغريقية.. إلى ديكارت صاحب المبدأ الشهير (أنا أفكر إذاً أنا موجود)..

كل هؤلاء الفلاسفة باختلاف مراحل علمهم ودرجاته مروا بمراحل الشك واليقين حتى يصلوا إلى درجة معينة من اليقين.. ولكننا هنا سنتوقف عند أحد الفلاسفة المسلمين الذى مر بالمرحلة نفسها التى مر بها فيلسوفنا مصطفى محمود.. وهو أبوحامد الغزالى.. وقد اقترب مصطفى محمود فى ذلك من الإمام الغزالى ـ رحمه الله ـ وما ذهب إليه فى كتابه «المنقذ من الضلال»، إذ يقول فيه: «كان التعطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبى وديدنى، من أول أمرى وريعان عمرى، غريزة وفطرة من الله وضعتا فى جبلتى، لا باختيارى وحيلتى، حتى انحلت عنى رابطة التقليد، وانكسرت علىّ العقائد الموروثة على قرب عهد الصبا».

وإذا استمعنا إلى كلام الدكتور مصطفى محمود: «فى عنفوان شبابى كان تيار المادية هو السائد، وكان المثقفون يرفضون الغيبيات، فكان من الطبيعى أن أتأثر بمن حولى»، ولذلك كما يقول فى أحد كتبه: «احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق فى الكتب، وآلاف الليالى من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين».

وبالرغم من اعتقاد الكثيرين أن مصطفى محمود، أنكر وجود الله عز وجل، فإن الكلام السابق والتالى يوضح أن المشكلة كانت فلسفية فى الحقيقة، فقد كان يبحث عن مشكلة الدين والحضارة، أو العلم والإيمان، وما بينهما من صراع متبادل أو تجاذب، وقد ترجم لحياته الروحية قائلاً: «إن زهوى بعقلى الذى بدأ يتفتح، وإعجابى بموهبة الكلام ومقارنة الحجج التى تفردت بها، كانا هما الحافز وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب.

ومع هذا العقل العلمى المادى البحت بدأت رحلة مصطفى محمود فى عالم العقيدة.

وعلى الرغم من هذه الأرضية المادية التى انطلق منها فإنه لم يستطع أن ينفى وجود القوة الإلهية، فيقول: «تصورت أن الله هو الطاقة الباطنة فى الكون، التى تنظمه فى منظومات جميلة، من أحياء وجمادات وأراض وسماوات، هو الحركة التى كشفها العلم فى الذرة وفى الـ«بروتوبلازم» وفى الأفلاك، هو الحيوية الخالقة الباطنة فى كل شىء».

وكما حدثنا الغزالى عن الأشهر الستة التى قضاها مريضاً يعانى آلام الشك، حتى هتف به هاتف باطنى أعاده إلى يقين الحقيقة العقلية، وكشف له بهاء الحرية الروحية، ومكنه من معرفة الله، نجد مصطفى محمود يتحدث عن صوت الفطرة الذى حرره من سطوة العلم، وأعفاه من عناء الجدل، وقاده إلى معرفة الله، وكان ذلك بعد أن تعلم، فى كتب الطب أن النظرة العلمية هى الأساس الذى لا أساس سواه، وأن الغيب لا حساب له فى الحكم العلمى، وأن العلم ذاته هو عملية جمع شواهد واستخراج قوانين.

وهكذا كانت رحلته من الشك إلى اليقين تمهيداً لفض الاشتباك بين العلم والإيمان، وذلك عن طريق علو الإنسان فوق المادة إلى ما هو أبعد أفقاً وأرحب مدى.

هل استوعبنا الموضوع؟ الأمر ليس بسيطاً بالمرة.. الموضوع الذى مر به فيلسوف مصر الحديثة.. إنه ليس حدثاً عادياً يمكن أن نتناوله ككلام متداول.. بل يجب أن نضع الصورة فى إطارها الصحيح.. إن هذه المرحلة التى مر بها الدكتور تاريخية لا تحدث إلا للفلاسفة المتأذين من الغث الثقافى المحيط بالمجتمع.. ويريدون إصلاح هذا المجتمع.. فكيف يصلحونه والمعارف أصابتها الشوائب..

فيكون الطريق هو عدم التسليم بأى شىء محيط، ويحول ذاكرته إلى صفحة بيضاء ليبدأ فى دراسة الوجود من أول (١-٢-٣) ليبدأ فى دراسة الأشياء والحقائق، كل على حدة وكلما تأكد من صحة شىء وأهميته تحول إلى الإيمان به وهكذا.. وإذا كان الفيلسوف أبوحامد الغزالى قد بدأ مرحلة الشك بنفى وجود الخالق نفسه فإن الفيلسوف مصطفى محمود قد اعترف بأنه لم ينكر وجود الذات الإلهية أبداً وأخيراً.. لخص الدكتور هذه المرحلة فى عدة كلمات بمثابة الروشتة لكل حائر وهائم.

أولاً: لم أبدأ مرحلة الشك هكذا من العدم وأنا غير مسلح بإيمان قوى أو وأنا عندى ضعف ما فى أى فرع من فروع الدين فأنا منذ طفولتى المبكرة شعرت بقلبى وعقلى يتجهان إلى الدين.. وتستطيع أن تقول: إننى فى الفترة ما بين سبع سنوات إلى اثنى عشر عاماً كنت متجهاً للدين بكل حواسى ومشاعرى.. أصلى الفروض جميعها فى المساجد وأستمع بإنصات واهتمام شديدين إلى الأئمة والشيوخ والدعاة فى المساجد وكنت أتردد فى هذه الفترة على مسجد وضريح سيدى عز مع صديق لى يدعى «فرج» نصلى الفروض والسنن ونستمع إلى وعظ شيخ الجامع وندون ما يقول ونحضر المولد وحلقات الذكر..

وهذا معناه أن هذه المرحلة الملحمية فى حياة الفلاسفة غير متاحة لكل الأفراد.

ثانياً: لا يجب أن يتأثر الأفراد فى مرحلة خلوتهم ـ مرحلة التفكير ـ بأى مؤثرات خارجية لأنى قد تعرضت من اليسار وقتها إلى إغراءات كثيرة خصوصاً بعد كتابى الأول «الله والإنسان» فقد كان تنظيماً دقيقاً، إذا صادف فى طريقه كاتباً يميل ولو من بعيد إلى أفكاره فإن مهمته تكون والحالة هذه: هى استقطابه ودفعه فى طريقه لكى يعمل أكثر.

فحين صدر هذا الكتاب فى البداية فوجئت بـ«محمود أمين العالم» يكتب مقالة يمجد فيها ظهور كاتب موهوب مجيد هو شخصى، ولأنى قلت ما يريدون نصبونى زعيماً، أذكر أننى كتبت قصة فى «صباح الخير» عن رجل زبال فأصبحت بأقلامهم أعظم كاتب.. أصبحت تشيكوف عصره.. بل قيل عنى يومها إن تشيكوف ظهر فى التاريخ من جديد، وأنا نفسى كنت مندهشاً لإعجابهم بهذه القصة بالذات رغم أنها كانت لا تعدو أن تكون عادية للغاية، بل لم يقتصر الأمر على ذلك فقد وضعوا القصة فى سلسلة اسمها «الغد» ووصفوها بأنها من عيون الأدب.. وعندما عدلت وعرفت الطريق الصحيح كاد هؤلاء الناس يفتكون بى، اتهمونى بالردة الاجتماعية والنكسة الفكرية، وهذا يدلك على أنهم ليسوا مخلصين بالمرة، وأنهم يكيلون وليس لديهم مكيال واحد للعدل.

ولهذا حذفت هذه القصة من كل مؤلفاتى بعد ذلك ولم أدخلها أى مجموعة قصصية، لقد كانت مدرسة، بل قل مدفعية ظهرت وقتها، عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم، كانت مدفعية إرهابية من أجل أن يسير الكتاب كلهم فى طابور واحد.. ومن أجل أن ينادى الكتاب كلهم بالاشتراكية العلمية والشيوعية والماركسية وكتب الحفاة.. وإلا لا يصبح من يكتب على هواهم أديباً!!

أنا بعد هذا الكتاب بدأت أعيد النظر فى كل شىء من حولى، وأولها هذا الكتاب الذى ألفته فوجدته مليئاً بالثغرات ولا يفسرنى، خاصة أن الفكر الاشتراكى يحاول استقطابى وتتويجى زعيماً، وأنا بالطبع لم أنضم لأى تنظيم لهم ولم أتعرف على كوادر يسارية منهم.. والحقيقة أننى بعد أن قرأت بإمعان ماركس لم أقتنع بما يقوله وأحسست أن هناك خطأ ما فى كتاباته، ولهذا حين دخلت فى حوارات ومجادلات مع محمود أمين أفحمته وفندت آراءه خاصة فى الندوة التى عقدت أيامها فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة ويومها سحبت البساط من تحت قدميه، وقال له زملاؤه بعدها: أرأيت ماذا فعل بنا الرجل الذى امتدحته ورفعته إلى عنان السماء السابعة؟!..

لقد اتضح أن مصطفى محمود هذا درويش أهبل.. سوف ينتهى به الحال إلى أن يجلس على الرصيف أو يجلس أمام أحد الجوامع زعيماً للمهابيل!
إنك باحتضانك لهذا الرجل ودتنا فى داهية!!

وبدأت بينى وبين نفسى حواراً طويلاً وقرأت كل ما كتب فى الفلسفة وعلم النفس بدءاً من سقراط إلى أفلاطون وأرسطو وهيجل انتهاء بكارل ماركس ووليم جيمس، وتعمقت فى قراءة الأديان من أول الفيدات الهندية والبوذية والزرادشتية وأخذ ذلك مجالاً طويلاً معى.. رحلة طويلة بينى وبين الأربعة جدران انتهت بشاطئ الإيمان.. أحسست بعدها فى النهاية أن القرآن الكريم جامع مانع.. تناول كل شىء فى هذا الوجود، ويعطى الإجابات النهائية لكل المسائل والقضايا التى كانت تحيرنى وتشغل عقلى، وليس هذا فقط ولكن القرآن يضم فى عباءته كل الأديان والفلسفات وخلاصتها.

ولكن كان لليسار اتجاه بالفعل وقتها، فالذى يسير فى طرقهم يشيدون به ويكتبون عنه مقالات والذى يغير طريقه عنهم يتناسونه أو يهاجمونه، حدث هذا فى الستينيات ولم يقتصر الأمر على الأدب بل امتد إلى السينما والمسرح.. وكل ذلك لم يأت نتيجة الفقر والجوع للبلد بل نتيجة الاقتصاد الشمولى الذى نادوا به فى حين تغير العالم كله، لقد رأوا بأعينهم سقوطهم الذريع.. فى خلال ٢٤ ساعة استيقظوا من نومهم فوجدوا جميع صحف العالم توجه إليهم اللعنات.. يديرون مؤشر الراديو فى كل اتجاه فيجدون أصوات الشعوب تهتف بسقوط الشيوعية حتى داخل روسيا نفسها.. إننى أشفق عليهم.

مذكرات د : مصطفى محمود " الجمعية الخيرية كانت تجسيداً لأحلامى ونظرياتى الاقتصادية " ( الحلقة الثامنة عشر )

■ إذا أردت أن تقدم يد العون لعباد الله.. فمد يدك لا تنتظر من الدولة ولا تنتظر من الآخرين ولا تنتظر من العالم كله أى شىء فقط مد يدك وسيصل العون لأصحابه

■ شعرت أحيانا أن هناك أصواتاً تنادى علىَّ من أماكن لا أعرفها.. لا يوجد أفقر من فقراء الأماكن القافرة فى مصر.. لا يوجد أكثر احتياجا منهم.. سيناء.. والواحات.. والصعيد.. وريف مصر

■ فى الأصل كدت أن أنشئ الجمعية فى أرياف الجيزة حتى تتوجه بخدماتها إلى المحتاج الحقيقى لكن الظروف جعلت من منزلى مقراً للجمعية فى ميدانى

مصطفى محمود

«قيمة الإنسان هى ما يضيفه للإنسانية من ميلاده وحتى وفاته».. كان هذا هو المبدأ الذى يؤمن به فيلسوف الشرق الدكتور مصطفى محمود، وهذا يدعونا إلى طرح مجموعة من الأسئلة لم تكتمل الإجابة عنها فى الحلقة السابقة وهو هل بالفعل تحدثنا عن رحلتى الشتاء والصيف فى حياة فيلسوف الشرق الدكتور مصطفى محمود الحديث الكافى الذى تستحقه تلك الرحلة العظيمة والفريدة والتى لم يقم بتطبيق مبادئها أحد غيره منذ قرون عديدة..

وهل عرفنا كيف أن الدكتور مصطفى محمود رفض أن يكون فاعل خير- من مكاتبهم- ينظِّر ويطلع ويعيش فى قراءات.. لم يحدث هذا على الإطلاق.. لقد توصل إلى حقيقة ثابتة واحدة.. وهى أن فعل الخير لا يلزمه انتظار الدولة.. ولا يلزمه من الدولة أن تنتظر -كما قال- بواقى وفضلات الدول الأخرى مسماة فى شكل معونات..

ولذلك أقام جمعيته التى سماها «مسجد وجمعية محمود الخيرية» وهنا قال الدكتور مصطفى محمود.. أقمت مستشفى لعلاج المرضى بالمجان باستخدام أحدث الأجهزة فى العالم- بالفعل قام بتحديثها لدرجة استقدام خبراء لاستخدامها وتدريب أطباء الجمعية الشبان عليها- ولم يزد الكشف أبدا عن قيمته المعروفة (جنيه واحد)..

ولكن كل هذا لم يرض نفسى.. لم أشبع من تقديم الخير للفقراء فى مصر.. وكنت دائما احس أن الفقير الحقيقى فى بلدنا موجود على الهامش فى سيناء والصعيد.. وأرياف مصر.. فى الواحات.. حيث لا يوجد دعم ولا توجد حكومة وهو ما دفعنى إلى التحرك صوبهم.. أخذت قوافلى الطبية والإغاثية والثقافية.. أخذت تلاميذى من الأطباء والمعلمين والممرضات.. للنزول إلى قلب الحدث داخل القرى والأقاليم كنت أريد أن أقدم دائما العون ليكون مثل الغوث والنجدة وكنت دائما أنجح بأن أعطى الإعانات المادية والمعنوية.

«وهنا نستطيع أن نقول إن أفكار الدكتور مصطفى أفكار اقتصادية بارزه أثرت على مصر كلها وهذا ليس مجرد كلام فعندما يفاجئنا الدكتور مصطفى بمغامرات اقتصادية قام بها من أجل إرساء أفكاره على شاطئ الاستقرار واليقين بأنه يؤدى ما خلق من أجله فيجب أن نستمع له» وهو يقول «أنا اول من أقر نظام القرض الحسن الدوار..

ففى وسط وحشية الرأسمالية وانتكاسة الاشتراكية وهنا قد يظن البعض أننى أتراجع عن أفكارى الحادة ضد الاشتراكية أمام الرأسمالية المتوحشة ولكننى أؤكد أننى من ألد أعداء الاثنين سواء الرأسمالية المتوحشة أو الاشتراكية الهدامة..

المهم فى وسط هذا التوحش الرأسمالى كان الفقراء مظلومين مطحونين بلا سند أو داعم غير رحمة الله ولقد أرسيت فى الجمعية نظاماً لإقراض الفقراء بلا فوائد وفى الوقت نفسه لا أعطى للفقراء القروض فى صورة أموال.. لأنى كنت أنظر للأموال على أنها مجرد مجموعة من النقود ستنتهى منفعتها بإنفاقها لكن عندما تطلب أسرة من الأسر المصرية البسيطة قرضاً من الجمعية وتعطيهم الجمعية بدلا من تلك الأموال أدوات إنتاج مثل آلات أو ماشية أو.. أو.. فإن هذه الأسرة ستعمل وذلك يدير عجلة الإنتاج الوطنى وسيترتب على ذلك تقليل البطالة بتشغيل أيد عاملة وأخرى مساعدة وسيترتب على ذلك الربح، وهنا تستطيع تلك الأسرة وبمنتهى السهولة واليسر أن ترد القرض الذى حصلت عليه وهى مازالت تمتلك وحدات الإنتاج التى لديها أيا كان نوعها- مع ملاحظة أن القرض قرض حسن بلا فوائد- لاحظ هنا أن القرض المردود لا يرد للجمعية بل تحصل عليه عائلة أخرى فى حاجة للقرض..

وبهذا نساعد المحتاج عملا بالمثل الصينى الشهير «بألا نعطيه السمكة بل نعطيه السنارة ليتعلم الصيد» ويعيش ويأكل هو وأسرته من إنتاجه وصنع يديه وطبقنا هذا المثل أيضا فى مراحل أخرى مختلفة قمنا بها فى الجمعية عندما أقمنا مركز التدريب الحرفى فى الزمالك واستعنا بالحرفيين لتعليم أبناء اليتامى بعد استكمال تعليمهم الأساسى ودعونا القادرين الذين يريدون التخلص من ملابس أو أثاث أو أجهزة عندهم أن يتركوها ونحن نأخذها ونعلم الأولاد عليها، إضافة إلى الشباب فقد أخذنا بنات الأسر الفقيرة وعلمناهن كيف يدرن المنزل وعلمناهن فعلا قواعد ومهارات إدارة المنازل وعلمناهن قواعد الطهارة والنظافة والأمانة.. والمفاجأة أن الشباب والبنات فى شهور التعلم هذه كنا نخصص لهم رواتب شهرية لتعينهم على مواجهة الحياة القاسية ولتكون بمثابة تشجيع لهم على العمل والاستمرار فى التعلم!!

إذن نحن أعطينا الأسر السنارة وعلمناهم كيف يصيدون وهى أفكار بدأنا تطبيقها منذ عقود ووصلت تغطيتنا الآن لأكثر من ٦٠٠٠ أسرة فى ٧ محافظات بما يزيد على ١٥ مليون جنيه شهريا!!

وهنا يشرد الدكتور مصطفى محمود بعض الدقائق ثم يقول.. أنتم تذكرونى بأيام جميلة ولكن هل تعلمون ما هى المشكلة الحقيقية عندنا فى مصر للأسف هى «مشكلة علم» فى المقام الأول دعوكم من الكلام المشهور بأن مصر نصفها أمى ولا يجيد القراءة والكتابة وأن معظمها لا يستطيع مسايرة تكنولوجيا المعلومات ففى زمننا الذى ذهب ولم يتبق منه غير الذكريات الجميلة كان مجتمعنا بالكامل أميا ولم يكن متأخراً بل بالعكس من يقرأ التاريخ الصحيح وليس المغلوط جيدا يعرف أننا فى هذه الفترة رغم الاحتلال بأنواعه وأشكاله المختلفة الذى كان واقعاً موجوداً بالفعل.. كنا أصحاب نهضة وحضارة والتى تدرس لطلبة المدارس الآن تحت مسمى النهضة المصرية الحديثة..

وهنا نخرج بأن محور التقدم الذى حاولت أن أنتقيه وأقدمه من خلال الجمعية هو العقلية المصرية ورغم كل وسائل التعجيز التى واجهتها عندما بدأت مشروعى إلا أننى مازلت أؤكد أن هناك فى كل شارع فى مصر عقليات رائعة.. فقط المناخ الفاسد هو من يخبئ هذه الزهور الجميلة من التفتح.. أنا أؤكد لكم أن لجنة براءات الاختراع فى مصر تحتوى فى أدراجها على كم هائل من الاختراعات التى لو طبق ربعها لأحدثت ثورة صناعية هائلة فى مصر.. لكن تقول لمين ومين يقرأ ومين يسمع، هذه العقول الشابة تبنيت الكثير منهم داخل الجمعية وحاولت بقدر المستطاع توصيل أصواتهم واختراعاتهم وابتكاراتهم ولكنى كنت أقابل دائما بالرفض وعدم الرضا لأن الكبار فى مصر يخشون منافسة هؤلاء الشباب!!

عندما شاهد علامات التعجب على ملامحنا أحب أن يضرب لنا مثلا.. فقال إن أحد أساتذة الجامعة الشباب فى مصر توصل فى بحثه العلمى إلى (مشروع السيلاج) وهو استخدام المخلفات الزراعية- زعازيع القصب- لإعادة تصنيعها كعلف حيوانى وكالعادة وجد عند الحكومة داء الصمت والتجاهل ولكنه عندما قابلنى وعرض على الفكرة انبهرت بالفكرة ولكنى أخفيت عليه ذلك الانبهار حتى أقوم بدراستها بشكل بحثى وعلمى حتى تكون إجابتى عليه وتشجيعى له على أساس صحيح وبعد أن تأكدت أنها دراسة هائلة ستجنى للدولة الثروات وستحول مخلفات إلى مواد صالحة الاستخدام تأكدت أيضا «لمصادماتى السابقة مع السادة المسؤولين عن البحوث العلمية» أن أى مسؤول ذهب إليه هذا العالم الشاب لم يستمع إليه من الأساس وبالفعل لم أعرض نفسى مرة أخرى لمرار التجربة مع تلك العقول المكتبية المتحجرة وبدأت فى تنفيذ المشروع على الفور وكانت النتائج مفاجأة للجميع..

فقد أحدث هذا المشروع ثورة عند عقول الفلاحين الذين اكتشفوا أن المخلفات التى كانوا يدفعون من أجل التخلص منها الأموال أصبحت ثروة تحقق أرباحاً أكثر من المحصول الذى يحتاج إلى سماد وخلافه من التحصينات الزراعية التى تجهدهم ماديا وأصبحوا لا يقومون بحرق تلك المخلفات التى تتكون من الزعازيع وأصبحوا يربحون من ورائها ولم يكن عائد هذا المشروع البحثى العلمى للفلاحين فقط بل كان للبشرية حيث ساعدت على ابتكار أسلوب القضاء على السحابة السوداء التى يتكون معظمها من حرق هذه المخلفات كما وفر هذا المشروع وجود مصانع جديدة لم تكن موجودة من قبل تتخصص فى إعادة تدوير هذه المخلفات وبناء عليه تم اختراع الآلات المتطورة شيئاً فشيئا والقضاء على نسبة من البطالة.. فانظروا كيف يمكن لبحث علمى أن يحل مشكلات عديدة تعانى منها البشرية فى هذه الأيام.. ونتيجة لنجاح المشروع تسابقت الحكومة كعادتها لتقليدنا وجربت أن تؤسس ذلك المشروع لكنها فوجئت بابتعاد المزارعين عنها لعدم ثقتهم فيها..

وذكر الدكتور مصطفى مثلاً آخر فقال.. أيضا أحد العلماء المصريين الشباب المتخصصين فى تربية الأسماك والذى تلقى هذا العلم فى الدولة التى تقدر العلم «الصين» وكالمعتاد لم يجد الشاب المسكين أى باب يلجأ إليه إلا ويجده مغلقا فقابلته واستمعت إليه بتركيز وأتحت له الفرصة ليعرض الفكرة على باقى أعضاء الجمعية وكما توقعت لها لاقت القبول والترحيب من الجميع فاتفق مع المنتمين لمشاريع الجمعية من أبنائها المنتفعين من القرض الحسن لحفر آبار فى مناطق الواحات للزراعه وأن يقوموا بزراعة الأسماك فى البحيرات الصغيرة المتسربة من الآبار وهو مشروع يشعر الملايين من البشر فى العالم أن الخير باق فى أمة محمد.. وكانوا أصحاب تلك الأراضى كلما يأتى يوم تجميع السمك يقومون ببيعه بأسعار رمزية..

وأحيانا بلا مقابل للأسر الفقيرة.. وهنا نجد أن تلك الأبحاث العلمية البسيطة استطاعت أن تجنى ثروات طائلة بذلك المجهود البسيط وتلك التكاليف الرمزية فما بالكم إذا تبنتها الدولة وعاملتها معاملة المشروعات القومية لأن ازدهار الثروة السمكية والقضاء على السحابة السوداء.. مشاريع أمن قومى من الدرجة الأولى.

يقول عالمنا الأثير الدكتور مصطفى محمود مهما تكلمت عن الجمعية الخيرية وفريق العمل الذى رافقنى فى بنائها فلن أكتفى أبدا ولكن فى عام ٢٠٠٠ تعرفت على مجموعة أشخاص أصحاب مطاعم ينفقون من أرباحها على تربية وتنشئة فتيات أيتام.. هؤلاء الناس وجدتهم مثلنا يهدفون إلى هدف سام.. رائع.. فقط تقابلهم مشكلة التمويل.. والتمويل كما تعلمنا من أسطورة الرجل الطيب- الذى ذكرت فى الحلقة السابقة- يكون بالعمل وليس بالدعم المادى فقط فاتفقت على شراء الوجبات الساخنة منهم كل يوم.. فى ذلك الوقت كان على مكتبى مشروع إطعام المساكين وهو عبارة عن إطعام الأسر الأكثر فقرا، مثلا (أسر اليتامى، أسر المنكوبين).. وهكذا دمجت المشروعين معا وضربت عصفورين بحجر واحد فنساعد على استمرار تربية الفتيات الأيتام إضافة إلى المساعدة على إطعام المحتاجين..

تخيل أنك إذا كنت من الفئة المعدومة المقهوره والتى تكون أرضا خصبه لآفات وأمراض هذا الزمن.. سواء كانت الإرهاب أو البلطجة أو الدعارة.. ووجدت تعليماً وتنشئة دينية وعلمية ومهنية ووجدت طعاماً ووجدت من يعلمك حرفة أو يساعدك فالمؤكد أنك ستبتعد عن أسباب الانحراف أو التطرف وهكذا..

ومنذ تلك اللحظة نمت إلى ذهنى وتفكيرى عملية كيف أستطيع مساعدة ومعاونة المساجين فهم بالفعل مذنبون ولكنهم إذا وجدوا الأيادى تمتد لهم فسيتصالحون مع أنفسهم ويتحولون إلى صالحين نافعين لمجتمعاتهم فأنا أؤمن أن الغالبية العظمى منهم مرضى نفسيون ومن العدل أن بعض حصص الطعام التى كانت توزع على الفقراء يتم إرسال جزء منها إلى قطاع السجون للمساجين وبالفعل بدأت فى اتخاذ الخطوات اللازمة لتطبيق تلك الفكرة ولكنى تأكدت من أن السجون لها ميزانية كبيرة والمساجين يحصلون على غذاء كامل..

ففكرت فى الموضوع بجدية أكثر بعد أن اتصل بى أكثر من قسم شرطة يريدون جزءاً من حصص الطعام خصوصا أننى وصلت إلىّ معلومات تفيد بأن المحتجزين فى التخشيبة أو الأقسام بعد تعرضهم للتشريفة المناسبة والتى تكون فى الغالب من السجانين القدامى أو أثناء معارضتهم لأوامر أمناء الشرطة والعساكر يفقدون دماء كثيرة ولا يحصلون على وجبات طعام وأن معظم أسرهم تكون فقيرة ومعدمة وتكتفى بأنها فقدت من يتكفل بمصاريفهم داخل التخشيبة ولا يستطيعون إطعامه وهم يحتاجون إلى من يطعمهم وهنا أخيرا وجدت طريقة أساعد بها هؤلاء فوجهت أغلب هذه الحصص إلى بعض أقسام الشرطة وأمن الدولة حيث المعتقلون السياسيون بعد أن وافق المسؤولون على هذا المشروع الخيرى الذى صاحب بعد ذلك تدعيم فقراء المساجين بالبطاطين ودعم أسرهم ماديا ومعنويا..وفى النهاية موضوع الجمعية ليس ملحمة أسطورية.. هى فقط قصة تقديم يد العون إلى المحتاجين بطريقة عملية..

وبعيدا.. عن الدعائية.. الأرقام عندنا ظاهرة. الميدان- ميدان مصطفى محمود- يعج بمن يلجأون إلى الصرح الذى إذا استطعنا بناءه فهو بحمد الله وتوفيقه.. كانت جمعية محمود الخيرية تصل- وما زالت رغم أنها ليست تحت إدارتنا الآن- إلى كل فقير وحققت الشعبية داخل أرجاء مصر وخارجها لأنها استهدفت الإنسانية ولم تفرق بين ديانات الفقراء ولكن الجميع كانوا بشراً.

مذكرات د : مصطفى محمود " حكايتى مع الأعمال الخيرية " ( الحلقة السابعة عشر )

■ العطاء فى هذه الأيام أصبح جنوناً

■ أفعال الخير والعطاء لوجه الله أصبحت مصيبة تطارد مرتكبيها.

■ أصبحنا نلعن العطاء بين الشرفاء مقابل نظرة رضا من السياسيين والأثرياء.

■ بالفعل لا أحد يستطيع أن ينكر أننا فى زمن التكنولوجيا الصماء أصبحنا أغبياء.

■ نحن نأكل الجوع ونشرب الظمأ وندخر الحقد ونحصد الندم ونموت جهلاً كما ولدنا. نحن لا نعرف من أين وإلى أين لا نعرف كيف ولماذا كنا وكيف أصبحنا أليس هذا هو الجنون؟

مصطفى محمود

أزمة كل الحركات الاجتماعية كجماعات والمثقفين المصريين والعرب كأشخاص، أن نضالهم كله يتركز فى شعارات.. عناوين.. البارز فيهم من يحول هذه الشعارات إلى كلمات وكتابات تولد على صفحات الصحف وتموت عليها.. قليلا أو نادرا من يكثف مجهوده ليحوله لعمل واقعى.. من الممكن أن نجد رجل أعمال كرّس وقته ومجهوده هو ومن حوله لصالح البيزنس الخاص به، أو فنانا استطاع توجيه أدائه هو وفرقته ومن يعملون معه لإخراج تحف فنية يحفر بها اسمه على حائط الفن.. لكننا لم نجد أبدا – فى حياتنا على الأقل – من يوجه جهوده من أجلهم.. من أجل فقراء هذا الوطن.. فقراء هذه الأرض.. من أجل اليتامى.. من أجل الفلاحين.. من أجل الغلابة.. لم نر من يفكر فى محاربة الإرهاب بالتعليم.. ويحارب البلطجة بإطعام الفقير وتربيته.. نعم لم نر.. إلا العالم الكبير مصطفى محمود.. وفى هذا الصدد نجده يقول:

منذ النشأة كانت لى أحلامى بخصوص من حولى، عندما نشأت لم أكن من الأثرياء، ولم أكن من الفقراء، كنت من المستورين (الطبقة المتوسطة التى اختفت حاليا).. ولكننى كنت دائم الانشغال بالفقراء.. اقتنعت بأن الفقر والجهل والظروف السيئة هى سبب تأخر أمتنا، بل هى منبع الإرهاب، فإذا أردنا أن نصعد بمعدل نمو دولتنا مثل الدول المحترمة، وإذا أردنا أن نقطع جذور الإرهاب فعلينا بمحاربة أسبابه.. وهذا لن يكون فقط بالتنظير أو بتأليف الكتب أو بالصراخ على المنابر السياسية.. العلاج يكون بأن يبدأ كل واحد بنفسه.. بيده.. لا أقصد هنا ألا ينتظر النظام «بواقى وفضلات» الدول الأخرى المسماة الإعانات لأنك ستكون «بتنادى فى جدار أصم»، بل أقصد ألا تنتظر شيئا أساسا من النظام.. عايز تعمل خير لبلدك وأهلك وأهلها.. الخير بيتنفذ- بقول يتنفذ- مش بيقف عند مجرد النية.. فالحل يكمن فينا وبداخلنا.

أما عن بداية الخطوات العملية عند الدكتور مصطفى محمود فقال:هل تتذكرون الحلم القديم الذى يسرده الناس الطيبون عن أسطورة الرجل الطيب الذى نشأ فى الريف وكان رجلا قويا صاحب عزيمة وطموح ودائما قلبه يرق لضعفاء قريته، فأقام مشروعا وشغل فيه فقراء القرية وكان يحجز جزءاً من أرباح هذا المشروع لينفق على أولاد عماله الفقراء.. ويوفر لهم علاجا وتعليما وملابس.. إذن بعد أن اهتم بتوفير مصدر للرزق يهتم بالتعليم والرعايه الصحية، وهو ما رفع من مستوى هؤلاء الفقراء وزادت احتياجاتهم فأصبحوا يشترون منتجات مصانع الرجل الطيب فراجت سلعته أكثر فدخل القرية المجاورة وأقام فيها فروعا أخرى معتمدا على فقرائها ورافعا إياهم من محنتهم..

وظل هكذا حتى قضى تقريبا على البطالة والفقر فى بلده.. لأنه لم يكن يفكر بالأساس فى جنى الأرباح فقط، بل كان يفكر فى فقراء بلدته، فيكون نتيجة عمله الصادق أن تتسع تجارته وتتعاظم أرباحه، فيقسم هذا الربح بينه وبين الفقراء فى مكان آخر، وهو ما يضاعف من أرباحه مائة مرة.. هذه الأسطورة المتداولة بين البسطاء كثيرا ما شغلتنى منذ الصغر، وكنت أفكر فيها باستمرار وأنقضها أحيانا، ولكننى وجدت نفسى أؤيدها بكل ما أوتيت من قوة.. حتى جاء منتصف السبعينيات.. وفكرت آلاف المرات فى كيفية تحقيق هذه الأسطورة بالفعل.. لكن الحقيقة أننى فكرت بالعقل.. التفكير بالعقل مش بالعواطف لو أردنا أن نحقق شيئا، وصممنا عليه سيتحقق..

هكذا كان حلمى أن أؤسس شيئا عمليا أستطيع من خلاله أن أمد يد العون.. أن أساهم فى حل مشاكل المحتاجين من المحيطين بى.. فى عام ١٩٧٦ بالفعل بدأت تنفيذ الحلم وحصلت من وزارة الأوقاف على ترخيص ببناء مسجد، وحصلت على دعم العديد من الأشخاص والجهات لإتمام بناء المسجد، وبدأت التفكير فى إنشاء مركز خدمى وعلاجى للبسطاء، فكرت أولا فى إنشائه فى أرياف الجيزة، ولكن بعد إقامة المسجد فكرت فى إنشاء المجمع بجوار المسجد..

فى البداية فكرت فى دور الكنيسة الخدمى الذى تقوم به لرعاية شعبها، وقلت فى نفسى لماذا لا يكون دور المسجد له نفس الخصائص، ويعطى لرواده من الفقراء والمحتاجين نفس المزايا.. بالفعل كان الحلم يراودنى، ومعى أخى الكبير مختار، وكان يساندنى معنويا ثلاثة أصدقاء آخرين استطعت أن أجندهم، واقتنعوا بما اقتنعت به من العمل لخدمة الإنسانية المشردة فى الشوارع والحوارى والأزقة.. وعندما وضعنا كل ما نمتلك معاً أكملوا ٥٠٠ جنيه وهو المبلغ الذى لا يسمن ولا يغنى.. ولكنى كنت أعمل عملا لله..

وعندما أعاننى الله قمت بزيادة رأس المال المؤسس إلى ستة آلاف وكان مبلغا كبيرا فى ذلك الوقت.. وهو ما ساعدنى على إنشاء المستشفى بالفعل.. بدأته بعيادة للباطنة، ثم عيادة للرمد ومعمل تحاليل، وهكذا كانت نواة المستشفى عدة عيادات صغيرة، حجم كل عيادة غرفة واحدة.. هل تعلم كم تبلغ القيمة الاسمية لهذه الأصول الآن.. أكثر من ١٥٠ مليون جنيه كلها لله، لا يوجد منها مليم واحد فى حساب خاص..

وفى منتصف الثمانينيات تقريبا كان الصديق الدكتور أحمد عادل نور الدين، وهو الآن من كبار إخصائيى التجميل فى الشرق الأوسط، أنهى رسالته وأصبح مستعدا للعمل الرسمى معنا، فأقمنا معا عيادة لجراحات التجميل للبسطاء، ولكم أن تتخيلوا مدى النجاح الذى حققه ذلك الفرع، وقد وجد الفقراء ما كانوا يتصورونه حكرا على الأغنياء متاحا لهم.. فكم فقيراً يعوقه تشوه ما بينه وبين الحياة الطبيعية، وهذا كان دورنا.. هنا أريد أن أتكلم عن هذه الفترة.. هل هناك ما يميزها؟

نعم هذه كانت أيام البرنامج.. فكنت أتبع نفس أسلوب الأداء والإدارة فى الاثنين.. وكنت أتبع نفس الأسلوب الذى اتبعته فى عملى سواء فى البرنامج أو أى مجال آخر.. كنت وأنا أدور حول العالم فى سفرياتى المتتالية، أبحث عن أحدث الأجهزة وأشتريها وأحضرها معى إلى المستشفى، فمثلا أحضرنا جهاز الأشعة المقطعية عندنا قبل أن يسمع به أحد، وأجهزة الرنين المغناطيسى، وكذلك أجهزة رسم المخ والعضلات، رغم أن الكشف كان ومازال بأرخص الأسعار، وذلك لأن الربح لم يكن الهدف من وراء هذا المشروع بل كان هناك هدف سام- الكشف ظل إلى فترة كبيرة قيمته جنيه واحد والآن بعد أن زادت قيمته لا يتجاوز أعلى كشف ٥ جنيهات.

كانت المشكله التى كثيرا ما تواجهنى هى الأطباء أنفسهم.. كيف أسهل لهم العقبات وهم يحصلون على ربع قيمة الكشف فقط إضافة إلى طموح الغالبية منهم فى تحقيق أهداف شخصية.. وكان هذا دورى.. المشروع فى نشأته يتلخص فى أنه سعى منا إلى تغيير الأوضاع بأى قدر.. أن نمد يد العون للآخر.. فكنت أصطدم بطموح طبيب من الموجودين.. وكان لابد من عدم تقييده بل دفعه لتنفيذ أجندته الخاصة.. لا أخيره بين طموحه الخاص وأهداف المشروع، بل كنت أحتويه وأدعمه فيسير فى أهدافه الخاصة ويعطينى أنا والمشروع كل ما نحتاجه من طاقته وزيادة..

فإذا طلب منى أحد الأطباء جهازاً ظهر حديثا، أحضره معى من أول رحلة لى فى الخارج، وكنت أساعد من يريد أن يكمل رسالة دكتوراه خاصة به.. فأصبح الأطباء يكبرون، مع اتساع شهرة وأعمال المؤسسة، وكنت أناقش كل طبيب على حدة، بالمرور عليه فى مكان عمله أو أطلبه عندى فى الاستراحة حتى نتكلم، وهو ما ساعد معظمهم على أن يصبحوا من كبار الأساتذة ويترقوا.. وها هم جميعا يشغلون مناصب.. مثل عمداء الكليات المختلفة وفى وزارة الصحة خصوصا بعد أن دعمناهم بحضور المؤتمرات العلمية فى الخارج.. إضافة إلى توفير أحدث الأجهزة فى العالم لهم.

وفى هذا السياق يقول الدكتور مصطفى وهو يبتسم لكوميديا الموقف: كانت هناك فجوة زمنية لصالحنا بيننا وبين مستشفيات الدولة فى تقدم الأجهزة والمعامل والنظام المتبع فيما يقارب الخمسين عاما، وكنا أحدث من المستشفيات الخاصة أيضا.. ومع ذلك كنا نعمل بلا ربح أو أهداف شخصية، وهذا كان يدفع أصحاب تلك المستشفيات، التى كان يطلق عليها لقب المستشفيات الاستثمارية، إلى الاتصال بى ويقولون لى «حرام عليك يا دكتور بيتنا هيتخرب» وكنت أضحك من موقفهم، الذى يعد بجاحة لاستغلال الناس ومحاولة لإقناعى بأن أجعل العلاج بأجر يساوى أجورهم الاستثمارية.. لقد أصبح المجمع يستقبل الآن أكثر من ٤٥٠٠ مريض كل يوم، ونجرى أكثر من ستين عملية يوميا- ولا قصر العينى- خصوصا بعد أن توسعنا وأقمنا فروعا فى أماكن أخرى.

لكن.. هل مؤسسة مصطفى محمود، التى أطلق عليها الدكتور جمعية ومسجد محمود الخيرية، يتوقف جهودها عند الخدمات الطبية.. الحقيقة أن هذه هى معلوماتنا عن الجمعية، لكننا فوجئنا بعالمنا الأكبر يشير لأدوار أخرى لمؤسسته، التى اتسع نشاطها ويتسع باستمرار فى مجالات مختلفة.. فمن توفير الملابس لعشرات الآلاف من الأسر المصرية، إلى توفير مصدر رزق دائم وثابت لمعدومى الدخل.. بل وتوفير طعام للمنكوبين..

وعندما أبدينا ذهولنا قال: الجمعية الآن لها دور اجتماعى كبير.. لكن ذهولكم هذا لأننا لا نروج لهذا الخير الذى سببه الله لنا ولكل من ينتفع من المؤسسة بأسلوب دعائى.. ربنا مبارك لأهل الخير والعملية ماشيه.. لكن ليس معنى ذلك أن نشاط الجمعية مجهولة لأن نتائج «جمعية محمود» موجودة فى كل الأقاليم، خصوصا المناطق التى لا تصل إليها يد الحكومة، مثل الصعيد وسينا والواحات.. ولجنة النشاط والخدمات الاجتماعية بدأت دورها فى بداية التسعينيات.. وأول وأبرز هذه الأنشطة قبل التسعينيات بعشرين عاما كان «مائدة الرحمن» المشهورة والتى تقيمها الجمعية فى رمضان.. فى هذه الأيام كانت مائدة الرحمن الشهيرة الأخرى فى السيدة زينب، فكان مشهد مائدة الرحمن فى المهندسين مشهداً رهيباً- مشهد عجبة- ولكن فى أول التسعينيات بدأت ما يسمى رحلتى الشتاء والصيف، وهما أمران مهمان جدا فى حياتى.

ولكن قبل الحديث عن رحلات الشتاء والصيف، قال الدكتور مصطفى محمود: عقلية النظام المصرى لا تؤمن أبدا بأن هناك من يمكنه أن يتصدى للفقر والإرهاب دون مقابل، فشكوا أن الجمعية والمسجد وما يلحق بهما من فروع تم تأسيسها بغرض تنشئة أجيال بأفكار أمنية أو أفكار دينية شاذة بتمويل ما.. وبالفعل وضعت المؤسسة بالكامل تحت المراقبة لأعوام.. وعشت ومن حولى تحت الرقابة الأمنية، حتى تأكد النظام من أن هدفى هو المعلن، وهو المساهمة فى رفع المعاناة عن أبناء وطنى.. والحمد لله رفعتها بالفعل، لأنى أؤمن بأن العمل والابتكار ليس بالصياح والشعارات والتوقف عند حد الكتابات..

وفى الاتحاد السوفيتى حاولت بعض الجهات هناك فى السبعينيات تمويل برنامج لتنشئة جيل من المقاتلين.. من طراز خاص.. على المستوى الأمنى أو الفكرى، لكن التجربة زرعت فى هذه المجموعة أفكارا شاذة لدرجة أن الجيل انهار أو تطرف.. ولأن النظام عندنا عبقرى فى كل شىء إلا الصواب، فقد خرجت تقارير تفيد بأننى أربى اليتامى عندى فى الجمعية.. وسألت التقارير: بربيهم ليه؟ هايكسب ايه من وراهم..

أكيد الموضوع فيه «إنّه».. العقلية الأمنية المستهترة فى كل صواب، ركزت بس معايا وركبت أجهزة تنصت على تليفونات الجمعية، وزرعوا عيونا وعشنا شهورا وسنوات طويلة فى ارتباك.. ولكننا لم نتذمّر إحنا مابنعملشى حاجه عشانهم ولا منتظرين أجر عليها يبقى ربنا هايحمى حاجته دى.. وزاد الطين بلة أنه فى بعض الأحيان كان يخطب فى المسجد بعض الشيوخ المغضوب عليهم، مثل الشيخ كشك.. مما دفع الجهات إياها لأن تظن فينا الظن إياه.. لكننى كنت مصرَّاً على تقديم حياتى للبسطاء والفقراء.

هل اكتفيت؟ سؤال ألقى بنفسه داخلى.. مشغول أنا فى برنامج «العلم والإيمان».. النجاح الهائل الذى وصلت إليه ألقى بداخلى مسؤولية مهمة حول إعداده والخروج به إلى الشعب العربى بصورة ملائمة كما ينتظرونه.. لكن هذا السؤال الملح حول ما إذا كان ما أقمناه بعون الخالق يكفى.. وصل عدد من تستقبلهم الجمعية إلى ٥ آلاف مريض يوميا، لكن هل اكتفيت.. أشعر أحيانا بأن هناك أصوات تنادى علىَّ من أماكن لا أعرفها: لا يوجد أفقر من فقراء الأماكن المقفرة فى مصر.. لا يوجد أكثر احتياجا منهم.. سيناء.. والواحات.. والصعيد.. وريف مصر.. فى الأصل كدت أنشئ الجمعية فى أرياف الجيزة حتى تتوجه بخدماتها إلى المحتاج الحقيقى، لكن الظروف جعلت من منزلى مقراً للجمعية فى ميدان مصطفى محمود.. لذلك كان هو الوقت اللازم للخروج برحلات الشتاء والصيف.

خرجت أنا وأطباء المجمع بهدف الوصول بخدماتنا إلى القاهرة ومعظم المحافظات المحيطة بها، ولفت انتباهى أن المحافظات البعيدة، مثل الصعيد ومطروح وسيناء، لا تصلها خدماتنا، على الرغم من تفاقم الأوضاع بكثير فى هذه المحافظات بالذات، فقررنا أن نخرج بقوافل إلى هذه المناطق، وبالفعل كنا نذهب بقافلة فى الصيف وأخرى فى الشتاء، كل قافلة منهما تتوجه إلى مكان ما، وعلى رأس هذه الأماكن «السلوم وسوهاج وقنا ومطروح والخارجة وأسوان».. وكنا نستغل فترة هذه القافلة ونهتم بأهل هذه المناطق فى أكثر من مجال وأكثر من نشاط، فكرى أو دينى، ووصل عدد هذه القوافل إلى ١٣ قافلة.

أما كيف غارت الحكومة من مشروعات الدكتور مصطفى؟ وكيف حاولت منافسته؟ وكيف خسرت بسبب التفاف الناس حوله؟ وما هى علاقة الدكتور مصطفى بالمعتقلين السياسيين فى سجون مصر؟ فهو موضوع الحلقة المقبلة.

مذكرات د : مصطفى محمود " رحلاتى.. سوَّاح فى دنيا الله " ( الحلقة الحادية عشر )




■ مازلنا نفهم الشرف فى بلادنا الشرقية بمفهوم ضيق جداً فالشرف عندنا هو صيانة الأعضاء التناسلية ونحاول أن نحكم على الشعوب بنفس المستوى فباريس داعرة لأنها تتبادل القبلات فى الشوارع وإنجلترا انهارت لأن الرجال أطالوا شعورهم ولندن هى الشذوذ الجنسى ولكن الحقيقة أن الشرف أكبر من هذا فهو شرف الكلمة.. شرف العمل والمسؤولية

مصطفى محمود

الوصول إلى اليقين أخذ الكثير من العمر.. نصف عمره تائه والنصف الآخر يبحث عن الحقيقه.. هل انعزل داخل حجرة مغلقة وظل يفكر.. وفقط، مثلما فعل أسلافه فى التاريخ البعيد.. الإمام أبوحامد الغزالى مثلا، أو جان جاك روسو؟ بالتأكيد لا؛ فالحقيقة فى هذا العصر الحديث تحتاج إلى ما هو أكثر من التفكير المجرد.. تحتاج إلى التجربة.. والمشاهدة.

مصطفى محمود أكد أكثر من مرة أن المسيخ الدجال ظهر بالفعل متمثلاً فى الوحش المسمى بالعولمة والذى أكل الأخضر واليابس فى طريقه ولم يترك دولة إلا واحتلها اقتصاديا أو ضمها إلى أملاك الشيطان الكبير مخترع العولمة.. وكان يحدث نفسه دائما: فى مثل هذا العصر المخيف هل يصح أن أعرف ما أعرفه من صفحات الكتب فقط؟

تحدث المفكر الكبير مصطفى محمود، وهو ينظر إلى مجموعة من الصور التقطت له فى مشارق الأرض ومغاربها، وقال: لا أستطيع أن أجزم بأننى مازلت أتذكر كل شىء عنها رغم أنها حصلت على نصيب كبير من عمرى فاستغرقت أكثر من ٤٠ عاماً أتنقل بين بلاد الله بحثاً عن الجديد.. بعد أن تعرفت على ما كان متاحاً لى داخل مصر والوطن العربى، وفى هذه الرحلات كانت نقاط التحول فى فكرى وحياتى وهى التى سأرويها هنا.

البداية كانت عندما كانت الرحلة والسفر من أهم الأشياء فى حياتى منذ مولدى وحتى الآن.. أتذكر عندما كان أبى يقول لى ولأخوتى إن الناجح وصاحب الدرجات الأكثر فى المدرسة سيحظى برحلة إلى القناطر الخيرية.. كنت أعيش أيامى أحلم بالرحلة وأتخيل ما يمكن أن أراه فيها وما يمكن أن أحمله معى وأنا عائد منها، ولذلك كنت أصنع المراكب الورق وأتخيل أننى سأفرت على ظهرها للهند وكما تعودت منذ الصغر أنه لابد من تحقيق أحلامى مهما كانت صعبة ومهما طال الزمن..

حتى لو كان السير على الأقدام من جنوب أفريقيا إلى القاهره.. وهو الحلم الذى طالما راودنى منذ الطفولة وقد تحقق حين أصبحت صحفيا فى روزاليوسف، وعلمت أننى ضمن الوفد المسافر لحضور مؤتمر آسيوى أفريقى فى تنجانيقا- تنزانيا حالياً- عام ١٩٦٢ وعندما علمت بخبر اختيارى ضمن الوفد كدت أن أغيب عن الوعى من الفرحة.

لم تكن سعادتى بالسفر لأنى سأصبح نزيل فندق خمس نجوم أو سأتمتع بمجموعة من الفسح والتسوق ولكن كانت سعادتى لأننى أخيرا سأحقق جزءا كبيرا ومهما من رحلة البحث عن الإيمان واليقين من أكثر البقاع التى لم تدنسها بشرية أو حضارة زائفة أو عولمة من الغابات والصحراء والطبيعة..

وعلى الفور توجهت لاستخراج تأشيرات السفر وحدث أطرف موقف فى حياتى أظهر لى مدى سوء الحظ عندما قابلتنى الصعوبات فى استخراج تصاريح السفر وعرقلوا سفرى بطرق كثيرة.. واكتشفت أن السبب أن هناك ضابطاً عسكرياً يحمل نفس اسمى ممنوع من السفر بأمر السلطات وكان مثل هذا الأمر يحتاج أيام عبدالناصر إلى بحث وتحريات حتى يتوصلوا إلى أننى لست هذا الشخص الممنوع من السفر وكم تمنيت كثيرا فى هذه الأيام أن أغير أحد الشيئين.. اسمى أو النظام.

وعندما حلت مشكلة التصاريح فوجئت بشح فى العملة الصعبة.. التى أحتاجها لمواجهة متطلبات الرحلة وإن أسعفتنى ذاكرتى فهو لم يكن مبلغاً من المال يزيد على عشرة جنيهات ورغم كل هذه الصعوبات إلا أننى استطعت أن أتغلب عليها وسافرت وغمرتنى السعادة لدرجة جعلتنى أنسى كل المتاعب التى صادفتها قبل السفر وما إن وضعت قدمى فى أفريقيا حتى انطلقت لأحقق ما أصبو إليه.. التنقيب عن أسرار أفريقيا..

فلم أطق الجلوس ولو دقيقة واحدة داخل الفندق وفى «تنجانيقا» صعدت جبل «كليمنجارو» ذلك الجبل الغريب الذى تتوافر فيه جميع فصول العام فحتى الثلوج تجدها فوق هذا الجبل وكلما صعدت تدريجيا تتغير أنواع النباتات التى تقابلك، فهذا الجبل فى حد ذاته يمثل متحفا من الطبيعة الرائعة، ولم أنس أننى يجب عند عودتى أن أكون محملا بكم من الصخور الطبيعة النادرة والأعشاب وهذا ما حدث بعد ذلك..

وكانت سعادتى كبيرة لأننى لم أصرف مليما من الجنيهات أثناء فترة انعقاد المؤتمر فقد تكفل المؤتمر بكل مصاريف الإقامة والمأكل والمشرب وما إن انتهى المؤتمر واستعد الجميع للعودة إلى مصر حتى فوجئوا بى أقول لهم «ترجعون إلى مصر بالسلامة».. وصرخ يوسف السباعى، الذى كان سكرتير المؤتمر الآسيوى الأفريقى، «ليه أنت مش راجع معانا ولا إيه».. فقلت له «لا راجع لكن مش بالطياره.. أنا هاروح مشى على رجلى»، واعتبرها مزاحاً وضحكاً، وضحك الجميع معه ولكنه تعجب عندما تأكد من أننى لا أمزح فقال «أنت اتجننت» ولكنى قلت له هذه فرصة العمر فلن أضيعها.

اتجهت إلى جنوب السودان وأتذكر أننى قوبلت بحفاوة وتقدير فى كل مكان أذهب إليه وقابلت عددا كبيرا جدا يقولون بأنهم من قرائى والمعجبين بكتاباتى فقد اتضح أن مجلة صباح الخير تصل إليهم وتلقى رواجا كبيرا بينهم ولهذا ظلت الجنيهات التى خرجت بها من مصر كما هى لم تنقص مليما وهذا لكرم القراء فى السودان الذين أقاموا لى ولائم ونحروا الذبائح احتفالا بوصولى.

ووصلت إلى «جوبا» فى جنوب السودان ومنها إلى الأحراش وهناك عشت ثلاثة أشهر من أفضل أيام حياتى بين أبناء قبيلة «نم نم» أو «نيام نيام» التى يعيش أهلها عراة تماما إلا من ورقة توت.. استضافنى زعيم القبيلة وكان يجيد الإنجليزية لتعامله مع الاستعمار الإنجليزى، والغريب بل الكارثة والفاجعة أنه كان متزوجا من خمسين سيدة يسكنون فى خيام متجاورة وعرض على أن أتزوج أربعا من بناته وعلى الفور أصابنى الرعب من هذا المأزق ولم أستطع الخروج منه.. ماذا سأقول لزوجتى سامية فى مصر «دى كانت تتجنن وتقتلنى»..

فضحك زعيم القبيلة عندما سمع منى هذا الكلام وأكد لى أن الرجل عندهم لا يعمل وغير ملزم بالإنفاق على المنزل أو الزوجة ولكن المرأة التى تقوم بالعمل والإنفاق عليه وكانت دهشتى بالغة حين رأيت بعينى الرجل فى هذه القبيلة يقتصر دوره على الجلوس تحت شجرة ليدخن ويأكل ويشرب بينما نساؤه يعملن لتوفير كل متطلباته ولم يكن غريباً ما سمعته وشاهدته بأن المرأة هى التى تطلب من زوجها أن يتزوج عليها لكى تجد من يساعدها فى العمل كما أن الجنس منتشر فى هذه القبيلة بشكل كبير فالمضاجعة دون زواج مباحة ولكن بشرط ألا تحمل الفتاة فإذا حملت تقدم هى وعشيقها أمام محكمة القبيلة وتكون الفضيحة والعار لها ولأبنائها من بعدها.

كما أننى شاهدت الحملات التبشيرية حيث يأتى المبشر المسيحى وهو مؤهل على المستوى الشخصى لجذب اهتمامات هذه الشعوب ففى الغالب يكون طبيبا بشريا وبيطريا وخبيرا فى الزراعة فيستطيع علاج البشر والحيوانات ويساعدهم فى الزراعة وكل ذلك من أجل أن يكسب ثقتهم ويصبح من السهل عليه جذب هؤلاء من القبائل البدائية إلى المسيحية وكانت هذه القبائل ترفض المسيحية وتقبل الإسلام لتعدد الزوجات، وذات مرة قالوا للمبشر كيف يمكن لداود أن يتزوج من مائة سيدة وسليمان ألف سيدة وأنت تريدنا أن نتزوج امرأة واحدة فقط، وحضرت محاضرة دينية بين المبشر وأبناء القبيلة يعرض من خلالها دينه فكان يقول إن الرب أمرنا بأن نبتعد عن السرقة والزنى، ولكن قال أحد رجال القبيلة، الإنجليز هم اللصوص الحقيقيون فقد سرقوا الأبنوس وثرواتنا ومناجمنا وحملوها على المراكب إلى بلادهم اذهب وانصحهم واتركنا فنحن عراة ولا يوجد علينا ما يسترنا غير ورقة توت، كانوا أذكياء رغم بساطة معيشتهم.

كانت رحلتى بالصحراء الكبرى هى أطول الرحلات التى قضيتها فى حياتى فقد استغرقت شهورا عديدة التقيت خلالها بقبيلة «الطوارق» التى قابلت فيها سيدة عمرها فوق الـ٨٥ عاما ورغم أن الإسلام لم يصل إلى جزء كبير من هذه القبائل إلا أنهم جميعا كانوا يحفظون القرآن كاملاً، رغم أنهم وثنيون، ولكن من الغريب أنهم حين يأتيهم الموت يرفعون إصبعا واحدا إمعانا وإشارة إلى الخالق الواحد القهار.

ومن غرائب هذه القبيلة أن الرجال فيها منقبون «ملثمون» والنساء متبرجات وهذا ما استوقفنى كثيرا أفكر فى الأمر محاولا أن أجد تفسيرا منطقيا لما يفعلون، وسمعت الكثير وكان ضمن ما سمعت أن الرجال دائما فى الصحراء يسفون الرمال ولكن المرأة لاتخرج من بيتها. لكن اكتشفت أن ديانات هذه القبائل تعتبر الفم عورة لأنه مصدر خروج الخير والشر والرجال فى الطوارق يفتخرون بأنهم ظلوا مع زوجاتهم طوال أربعين أو خمسين عاما ولم تر فمه أو تقول الزوجة: لقد عشت مع زوجى أربعين أو خمسين عاما ولم أر فمه.

وعندما ذهبت إلى مدينة «غدامس» الليبية فى قلب الصحراء تعرضت لدرجات حرارة شديدة ومختلفة وهذا ما كان يصيبنى بالبرد دائما وكنت أخاف بشدة من العقارب السامة والثعابين والحشرات التى يمكن بلدغة بسيطة منها أن أموت قبل أن يتم إسعافى، ففى الغالب معظم هذه القبائل تعيش بعيدة عن المدن والقرى التى يوجد بها المستشفيات وإن وجدت عندهم فتكون بدون استعداد كاف.

دخلت «غدامس» الإسلام تحت قيادة عقبة بن نافع وتحول جزء كبير منها إلى الإسلام وكان يثيرنى ويدعونى إلى التفكير كيف سافر الفاتحون الأوائل إلى الصحراء حفاة عراة من أجل هدف عظيم وسام وأى طاقة أطلقتها كلمات القرآن فى هؤلاء الناس. أكثر ما أسعدنى فى «غدامس» قبل أن أنتقل إلى قبيلة الطوارق لأعيش فى خيمهم هو ذلك الفندق الوحيد الموجود والعتيق وتلك الغرفة التى نزلت فيها التى قيل لى إن المارشال «بالبو» سكنها من قبل وأن «صوفيا لورين» كانت هذه غرفتها أيام تصوير فيلم «الخيمة السوداء».

أما رحلتى إلى الهند فكانت أكثر رحلاتى متعة بعدما شاهدت عن قرب كل هذا الكم الهائل من الديانات.. الهنود مختلفون فى كل شىء حتى فى صناعة أطعمتهم المليئة بالشطة والتى كان يصعب على تناولها لأنها تصيبنى بالتهابات معوية حادة.

وفى ذات يوم وأنا أتجول فى شوارع دلهى مع فوج من الأصدقاء المصريين والهنود والعرب شد انتباهى وأسرنى ذلك الرجل الذى رأيته أول مرة فى أحد شوارع دلهى عاصمة الهند، والذى كان نقطة تحول فى حياتى بعد ذلك، وهو يجلس فى حالة ثبات ويرتفع فى الهواء بلا مساعدة من أحد وبالفعل بهرتنى قدرته العجيبة على التحكم فى ذاته، وبهرنى أكثر عندما سمعت قصته فهو «براهما واجيوارا» كان يعيش طفولة مرفهة وجميلة داخل قصر كبير وتلقى تعليمه فى إنجلترا بجوار أبناء الملوك والأمراء وهو يتحدث الإنجليزية ويحيط بالفلسفة الغربية وآدابها وعضو فى جمعية مارلبون الروحية بلندن، ولكنه عاد إلى الهند ليخلع البدلة الأنيقة ويهجر بيته وزوجته وأبناءه ويهيم فى الجبال والغابات حافيا عاريا لا تستر جسده إلا خرقة قصيرة وقديمة».

استطعت أن أصل إليه عن طريق صديق هندى قديم ودخلت إليه داخل الكهف الذى يعيش به فى أحد الجبال وعندما قابلته رحب بى وأعطانى بعض الحبوب المملحة لأتناولها وأراد أن يملأ لى جرة من الماء فنزل سلالم بئر داخل الكهف حتى استقر فى قاع بئر الماء وسكنت حركته تماما ولم يخرج منها إلا بعد ٤٥ دقيقة كنت خلالها أصرخ فى صديقى الهندى لنحاول أن ننقذ الرجل ولكنه كان يضحك ويقول هذه أشياء بسيطة بالنسبة له، وجلس براهما يتمتم بقراءة آيات من الإنجيل والتوراة ثم من كتب البوذية بعد أن أعطانى جرة الماء وقال اشرب فإنى أنزل للحصول على الماء الطاهر من قاع البئر، وقبل سفرى إلى القاهرة ذهبت إليه أرتجف خوفاً من الدنيا ومن الآخرة، ولكنه مسح بيده على رأسى وأعطانى منديلاً به صرة ملح وسافرت عائداً إلى مصر وأنا على يقين بأن السماء بالقرب من الله أفضل من الحياة بالقرب من الناس.

وبعد الهند ذهبت إلى ألمانيا التى لا أستطيع أن أنسى ما قضيته من ليال فى كباريهاتها المحترمة، وألمانيا بلاد مهذبة جدا وأهم ما بها هو الورش والمصانع، فكنت أنام على مصنع وأستيقظ على ورشة، حتى شعرت بالملل فقلت لأحد أصدقائى الألمان أليس عندكم «ملاهى» أو كازينوهات واصطحبنى يوم الإجازة لأحد الكباريهات ليست كالموجودة فى مصر ولكن كل من كانوا داخله من العجائز، وجلست أشاهد الاستعراض وأصغى إلى موسيقى فاترة حالمة ففى ألمانيا الكباريهات محترمة وفى أحد الأيام تجولت وحدى لأشاهد ألمانيا بنظرة باحث وعرفت أن هناك شوارع مخصصة للفجور والدعارة والكباريهات المنحطة، وعندما ذهبت إلى هناك عرفت أن هذه الشوارع موجودة من أجل تلبية رغبات السياح وبعد تجولى داخل الشارع عرفت أننى لا أتفرج على ألمانيا بل أتفرج على نفسى وعلى الصورة التى فى ذهن الألمان عنى وعن السياح.

وفى هامبورج كانت هناك لحظات كثيرة طريفة بدأت من اللحظة الأولى حيث الوقت عند الألمان أهم شىء بعكسنا نحن المصريين، وأتذكر جيدا عندما كنت أقف فى صالة الفندق أكتب خطابا إلى «روزاليوسف» وإلى جوارى الملحق الصحفى الألمانى يشد شعره لأن المبعوثين المصريين لا يفهمون أن هناك مواعيد يجب الالتزام بها، وعندما صعدت بعد وصولى للفندق فى هامبورج لغرفتى لأستريح وعندما فتحت باب الغرفة كانت خاوية تماما ولا يوجد بها سرير وغضبت جدا فقد كنت منهكاً من السفر وأريد النوم، وإذا لم تكن هذه غرفتى فسيكون هناك وقت حتى أنتقل إلى الغرفة الجديدة أو سأنتظر حتى يفرشوا هذه الغرفة، وبسرعة بحثت عن الخادم وعندما جاء أبديت له دهشتى من معاملتهم للسواح فى ألمانيا.. أتعطوننى غرفة فارغة هل سأنام على الأرض وأصاب بالتهاب رئوى وبرد..

وابتسم الرجل ونظر إلى شعرى الأكرت ثم اتجه إلى زر فى الحائط وضغط عليه فخرج سرير كامل المعدات من داخل الحائط، واتجه إلى اليمين وضغط على زر آخر فخرجت كنبة، وشد حبلا فى الخلف فخرج مصباح وكتب وكرسى ومائدة عليها راديو وتليفون ونوتة مذكرات وإعلانات وهدايا، وشعرت بالخجل من جهلى بالتكنولوجيا الحديثة- وأنا كاتب وروائى- أمام خادم ألمانى.

لكن الأيام القليلة التى عشتها فى روما شعرت خلالها كأنى أعيش داخل لوحة فنية رائعة ولا أريد مغادرتها، شاهدت المدينة وكأنها قديمة وتبدو كمتحف، ففى كل مكان تماثيل قديمة ونافورة، وروما حافظة أمينة لتاريخ الفن الرومانى وكل آثار الفن الخالدة فيها أقيمت بتبرعات من جميع أرجاء أوروبا بدعوة من البابا من أجل المسيح، وفى متحف الفاتيكان شاهدت قصة المسيحية مرسومة على الجدران بريشة دافنشى ورافائيل، وفى الكنائس والمعابد شاهدت الكهنة، ووجدت للكاهن المصرى غرفة خاصة فى متحف الفاتيكان قابلت فيها فراعنة أعرفهم وملوكاً قدامى من الأسرات الأولى ولا شك أن تماثيلهم سرقت وعبرت البحر إلى إيطاليا ثم بيعت للبابا والكنيسة.

وفى روما عرفت أننى لم أفهم النحت الفرعونى فى مصر وتعلمت الفرق بين النحت المصرى الفرعونى والنحت الرومانى، فعندما نشاهد التمثال الفرعونى من بعيد ومن قريب ومن كل الزوايا نجده جميلاً أما التمثال الرومانى فيبدو من بعيد وكأنه «لعبكة» لكثرة ما فيه من التفاصيل والحركات ولتعدد الشخصيات فى كل تمثال.

وفى كنيسة القديس بطرس وجدت نفسى تحت قبة هائلة من الرخام ودفعت ستين ليرة لكى أشاهد المتحف البابوى ودخلت سرداباً يحتوى على أرواب وقلانس وصلبان وتيجان من الذهب كل تاج منها يزن بضعة أرطال، ومصاحف مدهبة ضخمة فى حجم الدولاب وجواهر نادرة، وعجبت لهذا البذخ الأسطورى وكان هذا البريق الخافت والذهب والماس والمجد والسلطان ممتلكات للبابوات الزاهدين الذين تركوا الدنيا خلف ظهورهم.

كنت أمصمص شفتى وأقول مساكين هؤلاء البابوات.. إن هذه التيجان حمل ثقيل جدا بالفعل، وجلست أتأمل كل هذا فى حالة حيرة، وعلى الفور تذكرت الخديو إسماعيل الذى حاول أن يجعل القاهرة قطعة من روما بعد أن جمع الفن الكلاسيكى وألقى به فى الميادين من خلال التماثيل والعمارات الأنيقة التى مازلنا نراها حتى الآن، ولكن إذا اتبعنا خطى إسماعيل فسنجعل من القاهرة بلدا قديماً ومتحفاً للذكريات.

مذكرات د : مصطفى محمود " أنا والسادات.. والجماعات الإسلامية " ( الحلقة الخامسة عشر )

■ قلت للسادات.. أتمنى - بصفة شخصية - أن أضيع عمرى فيما يعلى من صورة الإسلام الصحيح.

■ الإسلام أكبر من السؤال عن طول الجلباب واللحية والسواك سُنة ولا لأ.

■ ليست القضية أن نعرف من صنع الجماعات الإسلامية.. فنحن نرى فصائل الجماعات تقف وتهزم وتحرج أعتى قوة فى العالم .

■ هل من يساعد فى نهضة الجماعات الإسلامية محب للإسلام.. أم يفعل ذلك لمصالح خاصة؟!

■ إذا قامت الجماعات الإسلامية بإنهاء تلك المصالح ستساعد فى تحضير عفريت كبير.

■ هى الجماعات دى مين بالضبط «إخوان ولا جهاد ولا سلف ولا قطبيين.. ولا إيه».

مصطفى محمود

«كان السادات يغمض عينيه فيرى المستقبل.. ونحن نفتح عيوننا ولكن نرى الماضى» المشكلة الحقيقية التى واجهت فيلسوف الشرق - الدكتور مصطفى محمود - كانت طبيعة علاقته بالسلطة - فكما ذكرنا فى الحلقة السابقة.. كيف انتاب الدكتور مصطفى محمود الارتياب بعد الحفاوة التى وجدها فى استقبال محمد أنور السادات له بعد احتلاله منصب الرجل الثانى فى الدولة كنائب للرئيس جمال عبدالناصر.. وخطر على باله السؤال الأهم فى هذه اللحظة.. كيف ستكون طبيعة العلاقة بينه وبين السلطة التى أذاقته الكثير خلال الخمسة عشر عاماً السابقة.. وهنا يمكن أن نطرح السؤال هل سعى مصطفى محمود إلى السلطة؟

والإجابة بالفعل لم يسع إليها بل سعى السادات للوصول إلى عقلية مصطفى محمود بعد أن اكتشف الاثنان فى بعضهما ألفة، ووجد كل منهما عند الآخر متنفساً، لذا فقد جاهد الدكتور مصطفى محمود لفض أى ارتباط بينه وبين السلطة.. رفض بلباقة أى منصب يقترب منه وصده بشياكة متعللا للسادات - بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية - بأنه ليس بقادر على منصب وزير أو أى منصب آخر، وهو الذى فشل فى إدارة أصغر وحدات المجتمع - أسرته - وقال بالحرف (كيف سأقف أمام الله وأتحمل حسابه على المهمة والسلطة الملقاة على)!!

أما عن أهم النقاط التى ركز فيها الدكتور مصطفى محمود وهو يسرد ذكرياته مع السادات فهى الحرية التى تفتحت أمامه.. ككاتب.. وأمام الكثير من الكتاب الآخرين وهنا يقول المفكر الكبير مصطفى محمود.. الحقيقة تقال.. عصر الرئيس السادات كان عصراً مزدهراً للمثقف والكاتب.. فكان للمثقفين والكتاب والمفكرين مساحة غير متوقعة من الحرية فى التعبير عن آرائهم المختلفة وهم الذين عانوا كثيرا من قبل..

ووصل الأمر بالبعض إلى الهجرة وارتضاء حياة الهجرة طوعا أو نفيا.. عادت الحرية للكاتب وعاد هؤلاء المشردون فى الخارج وخرج المعذبون من المعتقلات بعد أن ألقى الرئيس السادات خطابه الشهير بأن يمارس الجميع عمله فى حرية تامة وأن يسارع كل الكتاب المشردين فى شوارع باريس والدول الأوروبية بالعودة إلى الوطن وذلك بعد قيامه بهدم المعتقلات والسجون التى قال عنها إنه أكثر شخص يحتقر هذه الأماكن ويعرف عواقبها وأضرارها لأنه مازال يعانى من أمراض بالمعدة بسبب سوء الأطعمة التى كان يتناولها أيام اعتقاله المتكرر قبل الثورة أثناء اشتغاله بالعمل السياسى واتهامه فى قضية التخابر مع الألمان وقضية اغتيال أمين عثمان وغيرها..

وبينما كان الجميع يتناقش حول العهد الجديد واختلافه عن العهد السابق.. فى مناقشات لا تضيف.. كنت أنا أستمتع بالعهد الجديد على طريقة عهد السادات بالتأكيد.. فقد أخرجت كل ما دونته وكتبته ولم ير النور بسبب ظروف هذا العهد السابق.. وبدأت مرحلة الاستمتاع - ولأول مرة تذوقت طعم الحرية - وأعطيت هذه المسرحيات والكتب لتنشر أولاً - كالعادة - مسلسلة فى مجلة صباح الخير إبان فترة رئاسة الأخ الكبير عبدالرحمن الشرقاوى..

وأتذكر أننى تعرضت لموجة من اعتراضات صلاح حافظ وزملائه على نشر هذه المسرحيات فذهبت فورا إلى صديقى الدكتور عبدالقادر حاتم وزير الإعلام فى هذه الفترة وصارحته بالأمر فقال لى سوف أتصل بالرئيس السادات فقلت له لا نريد أن نزعجه، فقال لى سيغضب جدا إذا لم أبلغه بمشكلة تعوقك أنت بالذات، فهو يكن لك معزة خاصة جدا ودائما يردد هذا أمامنا فى مجلس الوزراء عندما تأتى سيرتك.. وعندما أعرضت أنا عن الاتصال.. قام الدكتور عبدالقادر هو بالاتصال بالرئيس السادات وكان وقتها يستجم فى استراحة القناطر وفور أن أبلغه عبدالقادر أبدى استياءه الشديد وقال بالنص (كل كتب وروايات مصطفى محمود وأعماله الأدبية تنشر فورا بصورة لائقة ومسلسلة فى صباح الخير)..

وبالطبع غمرتنى السعادة لعدالة وإنصاف هذا الرجل لى، واتصل عبدالقادر حاتم بعبدالرحمن الشرقاوى وأبلغه بأوامر الرئيس، ولكن يبدو أن عبدالرحمن الشرقاوى ظن أن هذا الكلام غير حقيقي، فلم يهتم بالمسرحيات فأبلغت عبدالقادر مرة ثانية لأننى كنت حريصاً أن تخرج أعمالى إلى النور فما كان منه إلا أنه -على الفور- حدد موعدا للشرقاوى فى مكتبه بجريدة الأهرام لمقابلته وبمجرد أن شاهدنى الشرقاوى فى مكتب عبدالقادر حاتم بالأهرام، أخذنى بالأحضان وقال لى رواياتك تحفة رائعة، وأنا سوف أنشرها داخل العدد القادم لمجلة صباح الخير..

وبعد يومين وكان اليوم بالتحديد الخميس ليلا.. وجدت اتصالاً من الرئيس السادات يسألنى ماذا لو صلينا غدا الجمعة معا.. ورحبت طبعا وأنا تغمرنى السعادة لبساطة هذا الرجل وفى العاشرة وجدت سائقه على بابى يسألنى هل استعددت.. كانت السيارة الخاصة بالرئيس.. السيارة الأولى فى الدولة.. وقد اندهش ابنى أدهم من هذا الوضع وحاول أن يسألنى عن هذا الوضع الغريب الذى لم يتعود أن يراه، ولكن كان من الصعب على أن أقول له إن هذه سيارة الرئيس السادات الخاصة.. تحملنى إليه لنتشاور فى قضايا تخص الدولة والشعب، فقد كان صغيرا.. وهذه سيارة الرجل الأول!! ولكنه عرف كل شىء بعد ذلك.

وذهبت متوقعا أن أقابل الرئيس فى قصره لكنى فوجئت بالسيارة تشق طريقها إلى بلدة السادات الأصلية بمحافظة المنوفية - ميت أبوالكوم - وصليت معه والحضور وسألنى عن أحوالى، ودخلنا على مائدة الغداء.. وضحك من نظامى الغذائى الحذر من أى طعام ثقيل على المعدة وسألنى بغتة.. إيه رأيك فى الجماعات الإسلامية يا دكتور؟؟ وايه رأيك فى الشغل اللى عاملينه فى الجامعات والمساجد؟؟

الإجابة كانت على لسانى.. أنا دائما لا تقف أمامى أسئلة من هذا النوع.. يكفى أن قضيت أربعين عاما من عمرى أفكر فى القضية التى أسأل عنها اليوم.. ولكن هل تكفى أربعون عاما للإجابة عن سؤال الحاكم الذى يصدر القرارات.. وصمت قليلا.. واحترم هو صمتى.. وأجبت بصوت منخفض ارتفع تدريجيا.. «الموضوع أكبر من السؤال اللى حضرتك بتسأله.. بمعنى.. الجماعات دى بتاعت مين.. يعنى هى صناعة إيه.. وحضرتك خير اللى عارفين إن احنا مابنصنعشى حاجه.. السؤال ده المفروض حضرتك تقسمه لعدة أسئلة.. أولها.. مين صنعها؟؟

مين صنع الجماعات دى.. حضرتك بتشوف فصائل الجماعات بتقف وتهزم وتحرج أعتى قوة فى العالم - يقصد أفغانستان القديمة أمام الاتحاد السوفيتى قبل سقوطه - واللى بيساعد فى قومة الجماعات الإسلامية دى عشان هو بيحب الإسلام.. ولا عشان مصالحه.. وإذا قامت الجماعات الإسلامية بإنهاء مصالحه وتنفيذ أجندته من غير ما يدرى هايكون حضر عفريت كبير..

والسؤال التانى الفصايل اللى عندنا فى مصر من أى الأنواع هل هو مصنوع أم منشق.. يعنى فى الأول والآخر هل هو بينه وبين الغرب أجندة أم لا.. وبعدين الجماعات اللى عندنا فى مصر دى مختلفة قوى ياريس.. يعنى يجبرونا نسأل سؤال تالت مهم قوى.. هى الجماعات دى مين؟؟.. إخوان ولا جهاد ولا سلف ولا قطبيين.. ولا.. ولا.. «وقلت له.. بصفة شخصية «يا ريس أنا أتمنى أى حاجه تخص الإسلام نجمها يعلى يعنى بصورة أوضح هو ده اللى المفروض أضيع عمرى عشانه بس هى المشكلة يا ريس إن احنا نتفق معاهم على معنى للإسلام..

وبعدين الإسلام مش هو اللحية وطولها إيه والسواك قبل الصلاة سُنة ولا طول الجلباب.. والبدل دى كفر ولا لازم الجلباب.. مش هو ده الإسلام اللى نساعد على نشره يا ريس.. الإسلام اللى نشيله فوق اكتافنا.. هو الإسلام الداخلى.. هو كرامة المسلمين.. ماينفعشى ياريس العالم كله قاعد يحتفى بالطيار اللى عطل رحلته ونزل من السماء عشان ينقذ قطة كانت مزنوقة فى المحرك.. واحنا المسلمين الملايين بيموتوا من الجوع والفقر كل يوم.. ويقوموا يطلعوا خنجر فى ضهرنا اسمه الجماعات الإسلامية»!!

اندهشنا.. واستمعنا فى ذهول لهذا الحوار التاريخى.. مصطفى محمود لخص مشكلة الإسلام والمسلمين وعلاقتهم بنا وعلاقة الغرب بالجماعات واختلاف الجماعات فى سبع دقائق.. لخص ما شغل كتاباً وصحفيين وساسة دول العالم الغربى والشرقى فى دقائق.. هل قلت هذا للرئيس السادات؟ نعم.. ولم يقاطعنى أو يشرد أو يضحك مع انفعالى.. فقط استمع.. واستمع بدون أن يقاطعنى.. أنا لم أنقل لكم الحوار بكل تفاصيله.. وكان هذا الموضوع هو الجرح الذى أثارنى.. حيث يتعلق بالإسلام والإسلام الجديد والمسلمين الجدد.. وأين إسلام الأزهر من كل هذه الجماعات.. وحال المسلمين وسط كل هذه الأحداث .

الحقيقة أننى عندما توطدت الصلة بيننا أحببته.. أحببت السادات.. وأحببته أكثر لأننى وجدت فيه مصرية خالصة فكان يحب أن يعيش حياته ويحب أن يعيش غيره حياة أفضل لم يكن متشوقا لهدم الشخصيات الكبيرة أو حاقداً وناقماً على الأغنياء مثل من سبقوه فى حكم مصر سواء من الملوك أو الرؤساء ولكن أخطأ الجميع فى فهم شخصيته سواء فى الداخل أو فى الخارج.. ومن هذا اليوم وهناك قانون شهرى أصدرناه فيما بيننا أن نتقابل صباح أحد الجمع من كل شهر.. السيارة السوداء التى تخص الرجل الأول فى مصر تعبر تأخذنى فى الموعد.. لأصلى معه ونأخذ يومنا معا يسألنى فى شىء وأرد عليه.. لا أحب كثيرا أن أتدخل فى سياسته..

ولكنى ألقى عليه بعض الاستفسارات التى تلح على مثل وضع مصر قبل الحرب وحالها بعد الحرب.. وما هو دور الولايات المتحدة فى الأمور بالضبط.. وكيف سيرد على العرب الذين يتهمونه بالخيانة.. وكيف سيداوى جراحنا مع سوريا.. وهل بالفعل يعتمد على السوفيت فى كل شىء كما فعل عبدالناصر.. وما هى الحلول التى يطرحها للأزمات الداخلية خاصة أن الجميع يحاولون التشكيك فى قدراته.. وأحيانا كنت آخذ بعض العبارات من على لسانه، وأضعها فى مؤلفاتى.. لقد كان السادات يمتلك صدراً رحباً، فيسمع النقد أو الرأى الآخر ويدرسه إلى أن يصل إلى القرار..

وذات مرة سألنى باهتمام شديد عن رأيى فى أحد الحوارات التى كان يصرح بها لمجلة مايو.. بصفة دورية.. وسألنى عن رأيى فى أحد الحوارات التى أدلى بها لجريدة قومية.. وفى الحقيقة كانت قد انتابتنى الدهشة فى هذا الأسبوع بالذات لأن الرئيس السادات كان قد أعطى ثقة عمياء لبعض الزملاء من الصحفيين.. إلا أن هؤلاء الصحفيين يبدو أن لهم رأيا آخر.. فقد شاهدت شيئا مخيفاً..

فى تلك الأيام كان الرئيس ينشر يوميات مصورة له منذ صباحه حتى منامه ويظهر وهو يحلق ذقنه ثم وهو يمدد قدميه على مخدة ريش نعام.. فى بهو منزله - وقت القيلولة - وفى نفس الوقت كانت هذه نفس مرحلة انتشار العشوائيات وظهور مظاهر جديدة على الشعب المصرى مثل سكان القبور وطوابير الجمعية وظهور أثرياء بثروات فاحشة، نتج عنهم بالتالى فقراء معدمون..

أما الشىء المخيف الذى شاهدته فهو أن السادة الذين وثق بهم رئيس الدولة قد قاموا بنشر صور الرئيس فى الصفحة الثالثة بعد أن أقنعوه أنها تأريخ لتفاصيل حياته الإلهية، التى يحتاجها الشعب المصرى. ونشروا فى الصفحة المقابلة سلسلة تحقيقات عن سكان القبور وعن الفقراء والفئة المعدومة التى ظهرت حديثا.. وبعد انتهاء حلقات صور الرئيس.. ملأوا نفس الصفحة بأخبار أبناء الرئيس وبنات الرئيس وحفلاتهم وزواجهم وأعياد ميلادهم ونزهاتهم وتفوقهم .. إلخ.

وهنا يمكن أن أقول إن من هؤلاء الزملاء الذين وضع فيهم السادات ثقته من لم يكونوا محل ثقة، وحاولوا أن يشوهوا صورته أمام شعبه وصارحته برأيى وما كان منه إلا أن أوقف هذه السلسلة من التحقيقات، ولكن بعد أن كانت اكتملت وعملت مفعولها.. وها أنتم ترون النتيجة التى بثها مثل هؤلاء فى ضعاف النفوس من الفقراء.. لتكون النتيجة الهائلة.. حادث المنصة.